تحولات لافتة أصابت الغرب وغيرت صورته
تعرض النظام العالمي الذي وضع في أعقاب الحرب العالمية الثانية الى أخطار من قبل، ولكن في تهديدات الماضي كان الخطر يأتي من الخارج، أما الآن فيبدو أن الخطر يأتي من خلال التخلي عنه من جانب أولئك الذين يتحملون مسؤولية بنائه والذين استفادوا دائماً من وجوده.
بدأت دول كانت تخضع للنفوذ الغربي بتأكيد نفسها معلنة قيام نظام دولي ديمقراطي، أو فوضوي، ويبدو الجدال السياسي في أوروبا والولايات المتحدة وبصورة مفاجئة ضعيفاً جداً عند مقارنته بالأنباء التي تتردد في أروقة السياسة، كما أن الخيال يحل محل العالم الحقيقي– وقد بدأ ذلك كله خلال الأشهر التي أفضت إلى قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست)– وحتى انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. وقد تقدم نظام عالمي سياسي كان يبدو قبل فترة قصيرة أنه سيستمر إلى الأبد وبدأ يتداعى أمام أعيننا، والأسوأ من ذلك أن أحداً لم يتمكن من إبلاغنا بشكل مقنع لماذا حدث ذلك، وما الغاية من ورائه؟ وربما يكون التداعي مؤقتاً طبعاً، ولكن المشكلة أن الأحداث الاستثنائية لا يمكن أن تكون مؤقتة، وبمجرد أن يتوسع ميدان الاحتمال فإنه يستمر على هذه الحال إلى الأبد.ولمعظم جوانب المحنة والكرب علاقة بحقيقة أن الثورة ضد بعض المبادئ الأساسية للنظام العالمي لا تأتي من الخارج بل من مركز قوة العالم تماماً.
وكان الشيء اللافت في الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أن تلك الدولة التي ابتكرت فكرة التجارة الحرة ونقلتها الى شتى أنحاء العالم ترفض اليوم أن تكون جزءاً من أكبر تكتل اقتصادي شهده العالم، وبالنسبة الى الرئيس ترامب فقد تحول الى رمز للتراجع عن الإجماع الأميركي السابق في ميدان السياسة الخارجية. ويبدو في بعض الأوقات وكأنه يريد الخروج من النظام العالمي واستبداله بشيء آخر يتمحور حول فكرة وطنية قوية راسخة يتقبلها عالم المنافسة الحادة.وعلى سبيل المثال فقد انتقد الثقافة السياسية التي تشيد بانتشار السلطة، مؤكداً أنه من دون دولة قوية لن يحصل المواطنون على من يدافع عنهم ضد دول أخرى، ويبدو ترامب وكأنه يعتبر الالتزام الثابت بالقيم الليبرالية شكل عائقا للقوة الأميركية، كما أنه وعد بالسعي الى ما يعتبره اتفاقات تجارية أفضل للولايات المتحدة حتى إذا كان ذلك يعني تفكيك النظام الليبرالي العالمي في صورته الحالية.
تهديد النظام العالمي
تعرض النظام العالمي الذي وضع في أعقاب الحرب العالمية الثانية الى أخطار من قبل، ولكن في تهديدات الماضي كان الخطر يأتي من الخارج، أما الآن فيبدو أن الخطر يأتي من خلال التخلي عنه من جانب أولئك الذين يتحملون مسؤولية بنائه والذين استفادوا دائماً من وجوده، وكان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وكذلك رئاسة ترامب بالنسبة الى البعض مجرد خطأ في التصور والفكرة: وصحيح أن على الدول الكامنة في صلب هذا النظام أن تقيد قوتها وليس في وسعها الفوز في كل مرة، لكنها في الأجل الطويل استطاعت جني فوائد كبيرة ولديها مصلحة حقيقية في الحفاظ على هذا النظام. ومع ازدياد انكشاف الانقسامات الداخلية في أوروبا والولايات المتحدة حصلت العلاقات بين النخبة والقسم الأكبر من الدوائر الانتخابية على نوع من الديناميكية القديمة المألوفة بين الأوروبيين وبقية بلدان العالم، وهي تبدو مثل جهود تبذلها الطبقات المتنورة من أجل إقناع المشككين، وحدث صراع بين رجال السياسة والمثقفقين حول تفسير سلوك التصويت الغريب وشمل ذلك كل أنواع النظريات الاقتصادية والنفسانية فيما أصبح الإصرار على بذل جهد جديد إزاء التعليم المدني أكثر الحاحاً، ومن شأن مثل هذا الانقسام الإسهام في تعميق الخلاف والنفور فقط.حقيقة الصورة الحالية
وفي حقيقة الأمر لم يعد هناك بالنسبة الى الكثيرين في المملكة المتحدة والولايات المتحدة أي دور للنظام الليبرالي، وفي أوساط النخبة الثقافية والمالية تبدو الاعتقادات والممارسات التي نشأت على القدر ذاته من القوة، ولكن الكثير من المواطنين الآخرين كانوا يعانون بسبب تأثير قوى خارجية لا تتمكن أو لا ترغب الدولة في الاستجابة لها. وفيما ترى النخبة وجود نظام جيد الأداء في الأسواق الدولية والتجارة وحرية حركة الناس فإن شريحة القاع تشهد قوى متنافسة في عالم فوضوي بصورة متزايدة، وقد تم إغلاق معامل بسبب المنافسة من جانب الصين ودول أخرى، والرسالة التي تم إبلاغها الى العمال كانت أن بلادهم لم تعد قادرة على المنافسة. وكان للعدد المتزايد من المهاجرين تأثيره الكبير على الأحياء وشروط توفير الخدمات العامة، وهو الجانب الذي أثر بشكل واسع على الفقراء.واذا أردت أن تفهم ما الذي حل بالغرب وغيّر صورته فعليك التوجه الى تركيا أو مصر أو باكستان، لأن هذه الدول التي لم يتم قبولها في النادي كانت تتمتع على الدوام بأهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة الى الدول الغربية التي خلق تورطها المستمر ثقافة الشك والازدراء، وما حدث في الولايات المتحدة منذ انتخابات عام 2016 سيبدو مألوفاً بصورة لافتة بالنسبة الى الأتراك أو المصريين، وثمة روايات عن تورط خارجي في العملية الديمقراطية وذلك سيئ بما فيه الكفاية ضمن صورته الحالية ولكن الحال تزداد سوءاً، وبمجرد أن يدخل فيروس الشك القاتل الى مجرى الدم السياسي فإنه لا يغادره مطلقاً، وفي هذه الحالة يصبح التورط الخارجي استراتيجية سياسية، وعندها ستجهد الأطراف المختلفة في السباق السياسي من أجل الفوز ليس عن طريق تطوير سياسات أفضل بل بتحويل الخصوم الى خونة.ثم إن الأدوات التي نستخدمها لادارة بقية دول العالم أصبحت الآن متوافرة خارج الغرب، وعندما تتدفق السلطة والنفوذ في كل الاتجاهات تكون النتيجة وجود نظام يتمكن الكل فيه من الحكم على الفور.واذا كنت تظن أن ترامب يمثل المشكلة فعليك التفكير في ذلك من جديد، فقد طرحت الثمرة المحرمة، والسؤال هو كيف يمكننا العودة الى الوراء؟ ولماذا يحجم الجمهوريون عن طرح الاتهامات نفسها عن التدخل الخارجي ضد الديمقراطيين في المستقبل؟ ولماذا تمتنع القوى الخارجية عن محاولة استخدام التكتيك نفسه ثانية بعد أن رأت سهولة نشر الفوضى والخلاف؟ وترامب لم يتسبب بهذه المشكلة فهو في حقيقة الأمر نتاج عالم جديد يتعرض فيه الناخب الأميركي بازدياد الى نفوذ من الخارج، نفوذ لم يعد بمقدورنا التحكم فيه كما كانت الحال في الماضي.جذور المشكلة
وفي وسع المرء التكهن الى ما لا نهاية حول الأسباب العميقة وراء المشكلة الجديدة ولكن حقيقة الأمر هي أن ذلك يرجع الى التقنية، وهذه التقنية التي كانت حكراً على الغرب أصبحت عالمية في الوقت الراهن، والمواجهة بين إمبراطوريات أوروبا وآسيا في العصر الحديث تنطوي على معنى محدد بالنسبة الى المعنيين بالأمر: تفوق التقنية الأوروبية. ومضى بعض المفكرين الآسيويين الى حد الزعم بأن تلك المواجهة لم تكن بين الآسيويين والأوروبيين بل بين آلات الآسيويين والأوروبيين.لقد دخلنا الآن عصراً جديداً يمكن اختصاره بالقول إن الآلات الغربية تواجه في كل يوم الآلات الآسيوية، وبعد كل شيء، فإن الآلات ذاتها التي استخدمناها– ونستمر في استخدامها– من أجل إدارة بقية دول العالم أصبحت الآن متاحة تماماً في مناطق خارج الغرب، وكما أشرنا فإن تدفق السلطة والنفوذ في كل الاتجاهات على الفور يفضي الى نظام ديمقراطي بحسب إحدى وجهات النظر. ومن وجهة نظر أخرى يمكن وصف ذلك بأنه ميدان قوى يفضي فيه كل فعل الى ردة فعل في سلسلة لا نهاية لها.
اللافت في الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أنها ابتكرت فكرة التجارة الحرة واليوم ترفضها
لم يعد بالنسبة إلى الكثيرين في المملكة المتحدة والولايات المتحدة أي دور للنظام الليبرالي
لم يعد بالنسبة إلى الكثيرين في المملكة المتحدة والولايات المتحدة أي دور للنظام الليبرالي