الفيلم اسمه "العدو على الأبواب"، أو Enemy at the Gates، وقد أُنتج في عام 2001، ليحكي قصة على هامش معركة ستالينغراد الشهيرة، التي انكسر فيها الغزو الألماني للاتحاد السوفياتي، في الحرب العالمية الثانية.ويحكي الفيلم في مستهله عن المعاناة الكبيرة التي عاشها سكان ستالينغراد تحت وطأة الهجوم النازي الكاسح، وقلة أعداد الجنود المدربين، وفقر تسلحهم، في مواجهة القوة الغازية العاتية.
تشير الأحداث إلى تضعضع إرادة البعض، وتفكير جنود وقادة في الهرب، وتسلّل اليأس إلى النفوس؛ وهو الأمر الذي استفز كبار المسؤولين، الذين تلقوا الأوامر باتخاذ كل الإجراءات اللازمة، مهما كانت قسوتها، من أجل الحفاظ على تماسك القوات النظامية والحاضنة السكانية، بما يمكنهم من كسر الغزو، لأن عواقب سقوط المدينة أكبر من أن تحتمل، إذ سيعني ذلك سقوط الدولة، وخسارة الحلفاء المعركة، وهو الأمر الذي كان سيعيد تشكيل نتيجة الحرب، ومعها شكل العالم الذي نعرفه.في أحد المشاهد الفارقة يخطب القائد العسكري المسؤول في رجاله مهدداً: "هؤلاء الذين فروا من الميدان، يجب أن نفضحهم في وسائل إعلامنا، وأن نقتلهم علناً في الميادين، وأن نشرد عائلاتهم، وأن نلحق بهم العار".لكن المسؤول السياسي "دينلوف" لم يوافق على ما أتى به القائد المفوض، وبدلاً من تلك الخطة الصارمة، راح يشرح للقائد أنهم يجب أن يتصرفوا بطريقة مغايرة؛ وهو ما يمكن تلخيصه فيما يلي: "لا فضائح، ولا ترويع، ولا إعدامات ميدانية، ولا تشريد لعائلاتهم، علينا أن نركز على بث التفاؤل وزرع الثقة، علينا أن نخلق أبطالاً، وأن نعالج تضعضع الإرادة وتراجع الهمة بتنمية الشعور بالاعتداد والفخر والإيمان، علينا أن نخلق قدوة، وأن نصنع إلهاماً، وأن نبث الأمل".لقد تم إقرار مقترح القائد "دينلوف" بالفعل، فانتقى قناصاً مغموراً يدعى "زايتسيف"، وجعل منه بطلاً قومياً عبر تطوير قدرات القنص لديه، حتى صار رقماً مهماً في المعركة، وأيقونة سوفياتية أسهمت بجلاء في رفع الروح المعنوية لجنود الجيش الأحمر، وصولاً إلى تحقيق النصر.ما الذي يجعل من جماعة بشرية ما دولة؟يجب أن يكون هناك أرض، وسيادة، وشعب، وسلطة... وشيء رابع لا يقل أهمية أبداً عن هذه المكونات الصلبة الملموسة ذات الأثر المادي... وهو الفكرة.لا يمكن أن يتماسك المجتمع، وينتظم في سياق دولة، من دون القبول والامتثال؛ ومن الجائز طبعاً أن يتحقق القبول والامتثال عبر "الجبر"، ومن الأفضل أن يكون صادراً عن التفهم والرضا.لا ينشأ التفهم والرضا من دون بعض المشاعر والمفاهيم التي عبر عنها المسؤول السياسي "دينلوف" في خطته لترميم حالة رجال الجيش الأحمر والحفاظ على قدرتهم على صد الغزو النازي؛ وهي مشاعر لا يمكن تعيينها مادياً أو قياسها بمعيار.تندرج خطة "دينلوف" ضمن بعض آليات ومفاهيم الضبط الاجتماعي، التي من دونها لا يمكن الحفاظ على تماسك الجماعة، ولا صيانة الشكل الاجتماعي والسياسي الذي تبلورت فيه.من دون الضبط الاجتماعي تحدث الفوضى ويسود الخراب، ولا تمتلك أي سلطة قدرة على مخاطبة الجمهور، ولا يمكنها الحصول على القبول أو الرضا أو التمتع بالامتثال، فتنهار السلطة، ومعها الدولة.يعد ابن خلدون أول من أشار إلى مفهوم الضبط الاجتماعي بوضوح، بقوله: "إن الاجتماع للبشر ضروري ولابد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه... وإن الإنسان بحاجة إلى سلطة ضابطة لسلوكه الاجتماعي، وتتمثل وسائل الضبط التي تحقق هذه الغاية في: الدين، والقانون، والآداب العامة، والأعراف، والعادات، والتقاليد".لا يمكن إنكار فضل ابن خلدون على علم الاجتماع، ولا كونه أول من أشار إلى مفهوم الضبط الاجتماعي، لكن هذا العالم البارع كان يطور نظريته من واقع تجربته الخاصة والسياق التاريخي الذي عاش فيه، والذي كان المكون الإسلامي حاسم الأثر فيه.لكن علماء آخرين أتوا لاحقاً وحاولوا تطوير نظرية الضبط الاجتماعي واستكشاف عناصره وآلياته؛ ومنهم عالم الاجتماع "روس"، الذي حدد وسائل الضبط الاجتماعي في خمس عشرة وسيلة مرتبة كما يلي: الرأي العام- التقاليد- الشخصية- القانون- دين الجماعة- التراث- المعتقدات- المثل العليا- القيم الاجتماعية- الإيحاء الاجتماعي- الشعائر والطقوس- الأساطير والأوهام- التربية والفن- الأخلاق.لدي تقدير كبير لما توصل إليه "روس" في هذا الصدد، ولدي تقدير أكبر لشجاعته؛ إذ يشير بوضوح إلى أن وجود الطقوس والأساطير والأوهام بين وسائل الضبط الاجتماعي الخمس عشرة.كنا في دولة أوروبية غنية، حين التقينا أستاذاً مرموقاً للإعلام، ليحدثنا عن حالة حرية الإعلام التي يضرب بها المثل في بلاده؛ حيث جرى بيننا هذا الحوار:- ألا يوجد مسكوت عنه لديكم؟ - طبعاً هناك أمور نعرفها جميعاً ولا نتحدث فيها.- مثل ماذا؟- مثل أن الملكة لديها مرض سرقة الأشياء البسيطة Kleptomania، وزوجها لديه ميول جنسية مثلية.- ولماذا لا يكتب الصحافيون عن هذه الأشياء في صحافتكم الحرة؟- يجب أن نحافظ على قدر مناسب من الوهم بخصوص السلطة. وعبر هذا فقط يمكن أن يبقى النظام الذي يحقق لنا الأمن والاستقرار والرفاهية.إن وجود قدر من الوهم عن سماتنا كمواطنين، وأخلاق حكامنا ومناقبهم لا بأس به، إذا اقترن هذا بجهد ملموس، واحترام القانون، ووجود المثل العليا الحقيقية.لا يختلف ما صنعه "دينلوف" عما يقوله هذا العالم الأوروبي، وكلاهما يطبق ما أورده صريحاً وواضحاً "روس": شيء من الوهم والأساطير يجب أن يبقى لكي ننجح في الحفاظ على تماسك الجماعة، ونُفعّل وسائل ضبطها، ومن دون ذلك يمكن أن تنهار الرموز، وتتفكك الدولة، وينجح الأعداء في إدراك غاياتهم، لكن بجانب ذلك يجب أن يكون هناك قانون ومثل عليا وعمل جاد حقيقي.ما المشكلة إذاً؟المشكلة في عالمنا العربي، لأنه لم يختر من وسائل "روس" الخمس عشرة سوى الأوهام والأساطير والتصور الديني والشعائر والطقوس، وسعى إلى تكريسها كآلية للضبط الاجتماعي، متجاهلاً القانون والمثل العليا والأخلاق والعمل الجاد الحقيقي.* كاتب مصري
مقالات
كثير من الوهم... قليل من العمل
19-08-2018