رفقة عمر
مشاعر غريبة اجتاحتني وأنا أتخلى عن معظم كتب مكتبتي، التي عايشتني وعايشتها، ورافقتني ورافقتها بأسعد الأوقات وفي أسوأها، في أيام الفرح والسعادة وأيام الحزن والفقد، كانت رفيقتي بكل حالاتي، أي أن عمري كله كان بصحبتها. ومهما تغيَّرت ظروف حياتي بالصعود والانخفاض تبقى من أولويات حياتي، ربما لم أصاحب أحداً بقدر صحبتها، ولم أوفي لأحد بقدر يساوي وفائي لها، لأنها أنا، كينونتي ووجودي كله متمثل بوجودها، فكيف يمكنني التخلص منها، من قطع حبل المشيمة بيننا؟صحبة بدأت منذ العاشرة من عمري حينما بدأ الفرح يداهمني كلما مسكت يدي مجلة السندباد ومجلة سمير، تتملكني بهجة كأني ملكت الدنيا بحالها، كانت مجلات الأطفال بذاك الوقت يُشرف على إعدادها وإخراجها كبار الكُتاب المبدعين في مصر، ويرسم صورها عظماء فنانيها، فكيف لا تأتي بكل هذا السحر الذي يفجر الخيال وينميه لدى الطفل الشغوف بالفن والمعرفة؟وتطورت العلاقة بيني وبين كتب مرحلة الخيال المرفق بالألغاز وأسرار الجريمة، وهل هناك أفضل من روايات أجاثا كريستي وأرسين لوبين وشرلوك هولمز؟
نمت وتطورت العلاقة أكثر حينما دخلت في بوابات التاريخ من خلال روايات الهلال الشهرية، وانفتحت على عوالم معرفية أهم وأعمق من روايات الجريمة.كانت سعادتي تعني انفرادي بكتاب، وهي متعة أكبر من متعة أي صحبة من حولي. لم يكن لدي أي هدف من وراء القراءة إلا الحصول على هذه المتعة الملتبسة بمشاعر مختلفة، تطير بي بأجنحة الخيال إلى عوالم أبعد من غرفتي وبيتي ومكاني وبلدي، فأنا ابنة الأحلام والأوهام والخيالات التي لا حدود لها، الخيال مولود معي مصهور بجيناتي.أعترف الآن بأني لستُ إلا ابنة التخييل الذي لا نهاية له، وأن القراءة أشعلت فتائل اندفاعها وانطلاقها إلى فضاءات لا محدودة، وربما غير قابلة أحيانا للتحقق. فبعد النجاحات والإحباطات المتولدة من أحلامي المجنحة بأجنحة الخيال الفالت من زمام الواقع، التي زادت القراءة من انفلاتها من واقعها، وحطمت كل ما يربطها ويقيدها بأي شكل من أشكال القوانين والنظام والإلزام والالتزام، وساعدت التمرد الكامن بغفوته على أن يكسر قشرته ويخرج إلى كينونته وجوهر حقيقته بأسرع من توقيته، تشكلت شخصيتي على خلاف مناهج التربية الاجتماعية من حولي. أعترف الآن أن الكتب هي التي أحسنت تربيتي وإعدادي طبقا لنسغ حقيقتي وجوهري، تماهت مع جيناتي وطبيعتي، وشكلتني كما أصلي، لم تجعل مني مخلوقا آخر مدجنا ومربى وفق أصول وقوانين وقوالب التربية الاجتماعية المتعارف عليها، جعلت مني طائرا خارج السرب، بما يتماهى مع كوني خارجه، لم تغيِّر ولم تهذب مني ما هو هبة طبيعتي، أحلم وأتخيل وأحيانا أنجح ومرات أنهزم، لكن بكل الحالات كنت أصنع فيها واقعي.الكتب رفيقتي ودينامو حياتي، فهل من السهل التخلي عنها؟هل من السهل التخلي عن دواوين شعر ربت ورهفت أحاسيسي ومشاعري، التي أوزعها مع توزيعي لها؟كل كتاب حمل جزءا مني، من انفعالاتي التي تلامست مع جمله وحروفه، اقتربت وابتعدت، تدانت وانفعلت مع كل فكرة جادت بها روح كاتبها وأبدع فيها.مع كل رواية عايشت أبطالها وتلاحمت أحاسيسي مع أحاسيسهم، وباتت مشاهدهم وانفعالاتهم موشومة بذاكرتي، حتى إن تخليت عنهم.المكتبة باتت تكبر كما الغول، وتتوالد بشكل سريع، أكلت الأرفف، وتوسعت بمكان آخر، ثم فرخت كتبا امتدت على طول مساحات البيت، لا حدود للمكتبة، وحدها القادرة على تخطي الحدود والحواجز، لم تعد تسكن بمكان محدد بالبيت، بل بات البيت كله مقرا ومستودعا لها، لذا بات تقليمها وتشذيبها أمرا مرا، لكن لابد منه، حتى يكون هناك متسع للكتاب القادم، فلن أنتهي من صحبتها، حتى إذا تخليت عن بعض منها لأجل أن آتي بالجديد.قرار التخلي ليس سهلا أبدا، فماذا أُبقي وماذا أترك؟أكيد هناك كتب الدرجة الأولى تعني حاجتي للعودة إليها مرات أخرى، وهناك مراجع لا يمكن التخلي عنها، وروايات تقييمي الخاص لا يمكن الانسلاخ عنها، وهناك دواوين شعر لشعراء أصدقاء شهدت وعاصرت مولد نجوميتهم، وكانت بداياتنا معا، هذه البدايات لها طعم مميز، ومهما جاء بعدها من نجاحات وانتصارات أخرى، يبقى لها طعم حقيقي حنون له أصالته.