المصريون احتفلوا بيوم «وفاء النيل»... ورود ومواكب فرعونية وعرائس
استعاد المصريون أخيراً احتفالات أجدادهم القدماء بالنيل، والطقوس الفرعونية الخاصة بهذا اليوم، من إلقاء الورود ورفع الزينة وتنظيم المواكب النهرية، ما عدا إلقاء «عروسة النيل» في النهر، بحسب الأساطير، استرضاء للنيل، وتهدئة لغضبه.
على ضفة النهر الخالد في محافظة الجيزة بمصر، احتفلت القرية الفرعونية بيوم «وفاء النيل»، الذي يعود تاريخه إلى أكثر من سبعة آلاف عام، حينما كان المصريون القدماء يقدِّمون للنيل القرابين باعتباره مصدر الخير للبلاد، وأختاروا له اسم «حابي» أي جالب السعادة.في هذا السياق، قالت مديرة العلاقات العامة في القرية راندا الشيخ، إن القرية الفرعونية تنظم سنوياً عروضاً خاصة لتجسيد شخصية الملك والملكة بالزي الفرعوني، وهما يلقيان الورود في النيل، ويُحملان على كرسي العرش، فيما يرتدي زوار القرية الملابس الفرعونية ويشاركون في طقوس «وفاء النيل».وكان يوم «وفاء النيل» لدى القدماء يشهد طقوساً خاصة. خلال الاحتفال ينزل الوالي أو الملك من قلعته برفقة الأمراء في مراكب مزينة من مصر القديمة إلى مقياس النيل، ويظل هنالك حتى يفي النيل 16 ذراعاً، لتقام بعدها الاحتفالات «ويعطي الوالي الضربة الأولى بيده بمعول من فضة في المكان المحدد الذي تعد فيه الفتحة التي سيخرج منها الماء من السد الذي يحجزها عن قناة فم الخليج ليدخلها الماء شيئاً فشيئاً. ثم تلقى دمية في النيل، بحسب الأساطير القديمة، مع حفنة من النقود الذهبية والفضية، ويتبعه الحاضرون بإلقاء قطع النقود والأزهار وسط قرع الطبول وابتهاج الناس بقدوم النيل ووفائه في موعده.
وأضافت الشيخ، أن فرقة «صوت النيل» تقدم عروضها الفرعونية الراقصة التي تعبِّر عن تطور وتغير الطقوس الاحتفالية بالنيل من عهد إلى آخر، بمشاركة بعض الأسر والزائرين.
طقوس مختلفة
شهد النهر تغيرات في مياهه وصلت إلى حد التلوث والإهمال فى عصرنا الحالي بعد تقديس الفراعنة له باسم «حابي»، و«أوزوريس» لاحقاً. وكان من ضمن الطقوس ألا يلوث المصري ماء النيل، وفي الأدبيات الشعرية أن «أبا الهول» كان يفتخر بأنه رمز شموخ النيل.قديماً، كانت سفينة تحمل سلطان مصر مزينةً بالورود والأعلام ويستقبله الأمراء عند مقياس النيل بالطبول والمزامير. ويقال إن القدماء لم يقرروا إلقاء «عروسة» في يوم الاحتفال إلا بعد حصول كوارث عدة في عهد الملك «إيجيبتوس»، فتشاور مع بعض الكهنة الذين رؤوا أن النيل غاضب ويريد أن يتزوج بفتاة جميلة، وهنا كانت فكرة «عروسة النيل».وعلى مر العصور، حافظ المصريون على تقاليد الاحتفال ولكن مع تعديلات تتناسب مع كل عصر. في بداية العصر الإسلامي، انتهى طقس إلقاء «عروسة» في النيل احتفالاً به، وكان المسؤولون يقيسون النيل بشكل دائم، وفي حالة زيادته وسد احتياجات الشعب يذهبون إلى مسجد «عمرو بن العاص» حاملين الزهور فرحاً ويعلنون وفاء النيل ويشكرون الله على نعمه، مع بعض الأناشيد الوطنية الخاصة بهذا اليوم. وفي العهد الفاطمي، كان الاحتفال بوفاء النيل يحظى باهتمام كبير ويستمر ثلاثة أو أربعة أيام، وكانت الدولة بأكملها تشارك في هذه المناسبة. أما في العهد العثماني فكان الركاب يتجمعون في سفن مزينة بالأعلام والورود ويذهبون إلى السد عند مقياس الروضة ويضربون بفؤوسهم لينهار وتفيض المياه.جمع الاحتفال الفنون كافة منذ العصر الفرعوني حتى الآن، عن طريق سرد قصة حياة المصريين على ضفاف النيل ووفائهم له في العروض الفنية.أسطورة عروس النيل
روى خبير الآثار الدكتور محمود رفاعي، أن النيل لم يفض في عهد أحد الملوك، فأشار كاهن إلى الملك بأن النهر غاضب لأنه يريد الزواج من أجمل فتاة مصرية. من ثم، «جمع الملك أجمل المصريات واختار منهن الأجمل، وسميت «عروس النيل»، وأقنعها أنها ستتزوج من الإله «حابي» في الحياة الآخرة. استمرت تلك العادة، وفي كل عام كان المصريون يلقون في النيل فتاة عذراء استرضاء لوفاء النيل.في إحدى السنوات بحث الملك عن أجمل فتاة فاستقر رأي الجميع على أن ابنة الملك هي الأجمل، وكانت وحيدته، فأثار الأمر حزنه وحيرته الشديدة. عندها عمدت خادمة الفتاة إلى صنع تمثال ونحته على صورتها وألقي في النيل بدلاً منها. سرّ الأمر الملك إذ نجت ابنته من الموت، واستمرت تلك العادة دهوراً طويلة، وفي كل عام كان المصريون يلقون دمية على هيئة فتاة لإرضاء النيل. لكن خبراء آثار كثراً شككوا في الرواية، من بينهم الدكتورة هند صلاح الدين، الأكاديمية المتخصصة في الآثار بجامعة القاهرة، وقالت: «الثابت أن المصريين كانوا يلقون بدمية أو حيوان بحري ضخم من نوع «الأطم»، وهو من فصيلة الثدييات ويقترب في شكله من خروف البحر، ويشبه جسده إلى حد ما جسد الآدميين. وكُشف عن ثلاث لوحات مسجلة بالخط الهيروغليفي في جبل السلسة بأسوان تحتوي على ثلاثة مراسيم تعود إلى عصور الملوك سيتى الأول ورمسيس الثاني ومرنبتاح بين 1300 و1225 ق.م».تابعت: «تقر هذه المراسيم بأن تقام الاحتفالات للإله حعبي أو حابي، مرتين في العام مع أعلى وأدنى ارتفاع للفيضان، وأن يتم خلالها التقرب إلى النيل بتقديم قرابين مختلفة من الحيوانات والخضراوات والزهور والفاكهة، كذلك عدد من التماثيل الصغيرة لإله النيل نفسه، اعتقاداً أنه لن يفي بوعده إذا لم تمارس تلك الطقوس.بردية هاريس
قال د. أحمد منصور، الباحث المتخصص في علوم المصريات واللغة الهيروغليفية بمكتبة الإسكندرية، إن القصة المتداولة بأن المصريين القدماء كانوا يلقون بناتهم في النيل هي أكذوبة لا صحة لها، ومغالطة تاريخية كبيرة. فالمصري القديم حرص على إلقاء تماثيل صغيرة مصنوعة من الفيروز الحر أي الفيروز الحقيقي، كي يضمن فيضاناً وفيراً من المياه. وورد هذا الطقس في بردية هاريس، وكان يتم في كل من «منف» (ميت رهينة، محافظة الجيزة)، و«هليوبوليس» (عين شمس). وورد في البردية أن الملك رمسيس الثالث كان يلقي نحو 21 تمثالاً صغيراً في النيل، أحدها من الفيروز الحر، الذي كان الملك يجلبه من سيناء خصوصاً للأغراض الدينية».