ربما نجح الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر في تجنب حرب تجارية الشهر الماضي، لكن التحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي تظل بعيدة عن الحل. في البيئة العالمية الحالية الأقرب إلى فلسفة توماس هوبز، لن يتمكن الاتحاد الأوروبي من البقاء إلا من خلال زيادة قدرته على استعراض القوة، وهي ليست بالمهمة السهلة في كيان تشكل على وجه التحديد على سبيل رفض سياسات القوة والتبرؤ منها.مع إبرام معاهدة روما في عام 1957، نفضت أوروبا عن نفسها ما تبقى من نزعاتها العسكرية وركزت على بناء سوق موحدة مترامية الأطراف ومسالمة، ومنذ ذلك الحين، أصبحت الوسيلة الوحيدة التي تستعرض بها القوة هي السياسة التجارية.
ومع ذلك لم تسترشد هذه السياسة قَط بالفكر الاستراتيجي، الأمر الذي جعل نفوذ الاتحاد الأوروبي العالمي محدودا، على الرغم من نجاحه الهائل في الأسواق العالمية، والآن حان الوقت لكي تعيد أوروبا تأسيس نفسها كلاعب عالمي حقيقي، ليس من خلال محاولة محاكاة قوى عظمى كلاسيكية، بل عن طريق توطيد ونشر أنماط مختلفة من القوة.تتمتع أوروبا بالفعل بقوة معيارية كبيرة- القدرة على خلق معايير عالمية من خلال ما يسمى تأثير بروكسل- يمكن رؤيتها في الجهود المبذولة لكبح جماح شركات التكنولوجيا. على سبيل المثال، يحدد قانون تنظيم حماية البيانات العامة الذي استن أخيرا مبادئ توجيهية لجمع ومعالجة المعلومات الشخصية للأفراد داخل الاتحاد الأوروبي.والآن تسارع المنصات الرقمية- بما في ذلك الشركات الأميركية القوية- إلى التكيف والتعديل، كما تتعرض شركات التكنولوجيا الأميركية "الأربع الكبار"- ألفابيت إنك (الشركة الأم لشركة غوغل)، وأبل إنك، وفيسبوك، وأمازون- للضغوط من قِبَل الاتحاد الأوروبي بسبب مراكزها المهيمنة في السوق.ومع ذلك فشل الاتحاد الأوروبي في أكثر الأحيان في إدراك قوته المعيارية، ناهيك عن الاستفادة منها بشكل كامل، وهذا يعكس ويعزز الضعف في ثلاث مناطق: تقدير الذات، والوعي بالمخاطر، والقدرة على العمل.يتضمن تقدير الذات الإيمان بأن الاتحاد الأوروبي مشروع عظيم الشأن، والثقة الضرورية للتعبير عن هذا علنا، وإدراك الإمكانات الحقيقية التي يتمتع بها الاتحاد الأوروبي فيما يتصل باستعراض القوة. وتفتقر أجزاء كثيرة من الاتحاد الأوروبي بشدة إلى كل هذا، بدءا بألمانيا، التي تحرس مواردها بغيرة على الرغم من استعادتها الثقة بمستقبلها.في حين يوبخ ترامب ألمانيا بسبب تراكم الفائض لديها دون أن تساهم بالقدر الكافي في شؤون الدفاع عبر ضفتي الأطلسي، يجب أن تكون البلاد أكثر تحفيزا لاستخدام قدراتها لتعزيز قوة أوروبا، ولكن رغم أن الخطاب في ألمانيا حول تقاسم الموارد بدأ يتحول، فإن التغيرات الملموسة ستستغرق بعض الوقت.الواقع أن عدم رغبة أوروبا في رعاية نفوذها ونشره يتناقض بشكل حاد مع استخدام أميركا العدواني لقوتها السوقية لتعزيز مصالحها وتفضيلاتها. على سبيل المثال، منذ أعلن ترامب قراره الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015- المعروفة باسم الاتفاق النووي مع إيران- وأعاد فرض العقوبات على إيران، قررت شركات أوروبية عديدة، خوفا من خسارة القدرة على الوصول إلى سوق الولايات المتحدة، أن تنسحب من إيران.لإقناع الشركات الأوروبية بالبقاء في إيران، قامت المفوضية الأوروبية بتحديث لائحة الحظر لعام 1996، التي تمنع الكيانات الخاضعة لولاية الاتحاد الأوروبي من الامتثال لعقوبات قائمة خارج الاتحاد الأوروبي، وتسمح للشركات باسترداد التعويضات عن الأضرار الناجمة عن مثل هذه العقوبات، وتبطل تأثير أي حكم صادر عن محكمة أجنبية بناء عليها في الاتحاد الأوروبي. لكن التحديث أثبت أنه غير فعّال، كما اتضح من الموقف الذي واجهته جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (سويفت)، التي تمثل نظام الرسائل الآمنة المستخدم في تنفيذ المعاملات المالية العالمية عبر الحدود.كما علمت إيران في عام 2012، فإن خسارة القدرة على الوصول إلى شبكة سويفت تعني بالضرورة فقدان إمكانية الوصول إلى النظام المالي الدولي، ومع ذلك فإن هذا هو ما تسعى الولايات المتحدة إليه على وجه التحديد: فإذا فشلت شبكة سويفت في قطع إيران بحلول أوائل نوفمبر، فستواجه تدابير مضادة، غير أن التزام سويفت بهذا المطلب من شأنه أن يدمر أي حافز متبق لدى إيران للبقاء في خطة العمل الشاملة المشتركة. وهذا يرقى إلى فشل سياسي أوروبي كبير، لأن سويفت تخضع لولاية الاتحاد الأوروبي.كما أظهرت أوروبا افتقارا انهزاميا للثقة باليورو أيضا، فرغم أن اليورو ثاني أهم عملة في العالَم، فإنه يأتي متأخرا عن الدولار بكل المقاييس تقريبا، مما يزيد ضعف الاتحاد الأوروبي في مواجهة العقوبات التجارية الأميركية.وتتلخص نقطة الضعف الثانية التي يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى التعامل معها في الوعي بالمخاطر. على سبيل المثال، تحتاج الصين إلى الوصول إلى التكنولوجيا الصناعية في أوروبا لتحقيق طموحاتها الاقتصادية، كما تحتاج إلى الوصول إلى الموانئ الأوروبية لإكمال مبادرة الحزام والطريق. ومع ذلك فإن أوروبا تسمح لنفسها بالخضوع للسلب فعليا، وخصوصاً مع استحواذ الصين على مرافق الموانئ والمطارات، ولابد أن تكون العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والصين أكثر تبادلية، مع إدراك الاتحاد الأوروبي- وخصوصاً دول جنوب أوروبا وشرقها التي رحبت بالاستثمارات الصينية بأذرع مفتوحة- للمخاطر الأمنية التي تفرضها الأنشطة التي تزاولها الصين.ولكن لكي يحدث هذا، تحتاج أوروبا إلى نهج أكثر توحدا في التعامل مع روسيا، التي برغم أن التهديد الذي تشكله للاتحاد الأوروبي أقل من ذلك الذي تفرضه الصين عليه، فإنها حريصة على التأكيد على الانقسامات الداخلية وتأجيجها، فكيف نلوم اليونان على بيع موانئها للصين، في حين تلاحق ألمانيا مشروع خط أنابيب نورد ستريم 2، الذي سيزيد اعتماد أوروبا على روسيا في تغطية احتياجاتها من الطاقة.ويزداد كل هذا تعقيدا بفِعل التوترات المتصاعدة بين أوروبا والولايات المتحدة، والذي يعمل بين أمور أخرى على إفساد التعاون لاحتواء الصين، وهنا تأتي مسألة القدرة على العمل، فبدلا من انتظار شخص آخر يقاوم رغبة إدارة ترامب في هدم الهياكل المتعددة الأطراف، يتعين على أوروبا أن تأخذ زمام المبادرة في تخيل نظام تغيب عنه الولايات المتحدة.وهذا لا يعني ضمان قدرة النظام التجاري الدولي على البقاء في غياب الولايات المتحدة فحسب، بل يعني أيضا تطوير القدرة العسكرية الكفيلة بزيادة مصداقية الاتحاد الأوروبي الجيوسياسية وتحويل ميزان القوى العالمي، وهنا تشكل مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإنشاء قوة عسكرية أوروبية خارج نطاق منظمة حلف شمال الأطلسي ضرورة أساسية، ويتوقف نجاحها على نهج تعاوني موحد ربما يضم حتى المملكة المتحدة، والتحدي هنا واضح، لكن العائد- على الاتحاد الأوروبي والعالَم- يستحق بذل كل جهد ممكن.* أستاذ العلاقات الدولية في معهد باريس للعلوم السياسية، وكان مستشارا لرئيس الوزراء الفرنسي السابق مانويل فالس.«زكي العايدي»
مقالات
كيف تتعلم أوروبا الكف عن القلق وحُب القوة؟
20-08-2018