الليرة والغضب الإلهي
يحدث دائما، لأسباب سياسية أو اقتصادية، أن تنخفض أسعار البترول أو ترتفع للأسباب ذاتها، كما يحدث أن تتراجع عُملة بلد ما نتيجة سياسات هذا البلد وسلوكه الاقتصادي. حدث ذلك قبل أيام لليرة التركية، التي تراجعت لسياسات اقتصادية تراكمية، وتضاعف هذا التراجع، بعدما حدث بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية. لن ندخل في تفاصيل ما حدث، وتاريخ ما حدث، ولن أدَّعي ثقافة اقتصادية. المثير للاهتمام هو هذه الهبَّة نحو نصرة الليرة، واعتبارها العملة الرئيسة للخلافة الإسلامية، وتصوير انهيارها هزيمة للإسلام. تنادت الكثير من الأقلام على وسائل التواصل الاجتماعي إلى الدعوة لدعم الليرة التركية، ورفع البأس عنها، لتعود لعافيتها، وهذه أيضا حرية من يرى ذلك ويدعم تركيا، لسبب أو لآخر. أما أن يربط هذا الدعم بالواجب الشرعي، ويرى فيمن لا يساهم في دعمها قد ارتكب إثما، فذلك ما لا نقبله، لأسباب كثيرة.
كل بلد إسلامي، هذا إذا افترضنا أن تركيا بلد إسلامي، وليس علمانيا، كما يصرح ساسته ومفكروه، قد يتعرض لمشاكل اقتصادية، فيهبط سعر صرف عملته، وهو ما حصل فعلا للجنيه المصري، ولم نرَ هذه الضجة لدعمه وإنقاذه كما يحدث الآن. في ذلك الوقت كان الوضع الاقتصادي التركي في أوجه، فلم ترفع تركيا ومسلمو تركيا شعارات إنقاذ الجنيه المصري، ولم يقل متدينو تركيا إن الله سيعاقب كل من لا يدعم الجنيه المصري المسلم. تعرضت بلدان الخليج، التي يقف الآن رجالات الدين، والإخوان تحديدا، فيها مع تركيا، لانهيار أسعار النفط في الثمانينيات، ولم نسمع أصواتا تدعو إلى دعم الحكومات الخليجية ومساندتها من رجالات المال والأعمال بالخليج أو في تركيا. فهل يعاقب الله من لا يدعم تركيا اليوم، ولا يعاقب من تخلى عن بلده بالأمس؟!محاولة ربط الدين وعقاب الله في الأمور السياسية والاقتصادية بمزاجية وانتقائية هي محاولة تنطلي على البسطاء الذين لم يعد لهم وجود نسبي، في الوقت الذي يرتفع الوعي وتبادل المعلومات عبر وسائل تواصل شتى. لم يعد الخطاب الذي يدَّعي أنه الحلقة الوحيدة التي تصل بين العبد وربه مقبولا أو مقنعا، حتى إن صمتت الأغلبية عن الرد عليه. الذي يصرخ في العامة بالكويت بأن دعم الليرة التركية واجب شرعي لم يهمس همسا بأن دعم فقراء البدون وسد حاجتهم ودفع رسوم تعليمهم وعلاجهم وإيجارات سكنهم واجب شرعي. الواجب الشرعي الذي يظن صاحبنا أنه وكيله والمعتمد الرسمي له يتلون وفق أهوائه السياسية، معتقدا أن ذلك ينطلي على الناس، كما انطلى عليهم في صراعات الأفغان وجهاد النكاح. الذين سيسيرون خلف هذا الخطاب يعلمون أنهم سيكونون ضحاياه ماديا، وسيتركهم هذا الوكيل الشرعي، كما تركهم في جهادهم، وجلس يبيع البخور الملكي ويسوِّق له.يستطيع كل إنسان أن يعمل عقله، يستطيع أن يقرر هو شخصيا دعم تركيا بالطريقة التي يريد، لكن عليه ألا يسلِّم وعيه لتجار الخطاب الشرعي الذين يرهبونه باسم الدين، ليفعل ما لا يريد.