ربما لم تستمر شخصية سياسية في تأدية دور بارز على المسرح الدولي في الفترة الأخيرة كما كانت الحال مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويبدو أن مجموعة من العوامل ساعدته في شغل هذا الدور وكان من بينها قمة هلسنكي التي جمعته مع نظيره الأميركي دونالد ترامب، ومخاوف الولايات المتحدة من تدخل روسي في المستقبل بعدما تردد عن تدخل موسكو في الانتخابات الرئاسية الأميركية في سنة 2016، وعودة الكرملين الى تأدية دور مؤثر وحاسم في منطقة الشرق الأوسط، وطبعاً، فوز بوتين السهل في انتخابات الرئاسة في شهر مارس الماضي. ويبدو أن هذه العوامل تشير الى استمرار قوة الرئيس الروسي، لكنها على الرغم من ذلك ربما تخفي أيضاً نقاط ضعف متنامية.

وكان قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم في شهر مارس من عام 2014 نعمة بالنسبة الى الموافقة على أداء بوتين السياسي، وكانت هذه الموافقة بين الـ61 الى 65 في المئة قبل عملية الضم ثم ارتفعت بصورة مذهلة الى أكثر من 80 في المئة بعد تلك العملية، وبالنسبة الى الكثير من المواطنين الروس أعاد ضم شبه جزيرة القرم عظمة روسيا الوطنية، ومن هنا كانت مكافأة بوتين عبر إظهار مزيد من الدعم له، وخلال الشهور القليلة الماضية، على أي حال، فإن زيادة الإحباط الشعبي من السياسة الداخلية واقتراح الحكومة المفضي الى إضعاف شبكة السلامة الاجتماعية أدى الى هبوط حاد في شعبية الرئيس الروسي. وبالنسبة الى الطبقة السياسية في روسيا كان ذلك يعني نهاية الموافقة على أداء بوتين، وهو تطور يمكن أن ينطوي على مضاعفات حقيقية في فترة رئاسته الجديدة، وأن يعقب ذلك معركة خلافة محتملة.

Ad

ماذا وراء الانكماش؟

كان هبوط معدلات الموافقة على أداء بوتين حاداً، وبحسب معلومات جمعها مركز ليفادا وهي جمعية استطلاع آراء روسية مستقلة أعرب 67 في المئة فقط من الذين شملهم الاستطلاع عن موافقتهم على أنشطته في شهر يوليو الماضي مقارنة مع 82 في المئة في شهر أبريل و79 في المئة في شهر مايو. وفي استطلاع شهر يوليو 2018 قالت نسبة بلغت 40 في المئة إنها تعتقد أن روسيا تسير في الاتجاه الخطأ، وشكل ذلك الرقم ارتفاعاً عن نسبة 26 في المئة في شهر أبريل وبعد الانتخابات الرئاسية الروسية مباشرة.

وتجدر الإشارة إلى أن أرقام شهر يوليو يمكن مقارنتها بالأرقام التي أظهرتها الاستطلاعات التي سبقت ضم شبه جزيرة القرم (41 في المئة في شهر يناير من عام 2014)، وإضافة إلى ذلك يعتقد 58 في المئة من الذين شملهم الاستطلاع أن حكومة موسكو لن تتمكن من تحسين الوضع الاقتصادي في البلاد خلال العام المقبل، والسؤال هو أين حدث الخطأ؟

يعود السبب الرئيس وراء هبوط نسبة تأييد الكرملين إلى اقتراح قدمته حكومة موسكو يهدف الى رفع سن التقاعد من 60 الى 65 سنة بالنسبة الى الرجال ومن 55 الى 60 سنة للنساء، وقد صادف الإعلان عن هذا الاقتراح بداية الألعاب الأولمبية الأخيرة التي استضافتها روسيا، كما أن ردة الفعل السلبية دفعت الحكومة إلى القول إن الرئيس بوتين لم يشارك بصورة شخصية في عملية اتخاذ القرار. وكان من الواضح أن السلطات كانت تسعى الى تخفيف استياء العامة المحتمل من تلك الخطوة، وأن تحمي شعبية بوتين من المضاعفات المتوقعة نتيجة لذلك، ولكنها قللت من تقدير حساسية العامة إزاء تلك الخطوة ووجدت نفسها أمام مقاومة حادة من جانب مختلف المجموعات الشعبية.

ويرجع سبب الغضب الشعبي الى أن ذلك الاقتراح ينتهك العقد الاجتماعي الروسي الذي ينص على محافظة الحكومة على ما يدعى الاستقرار والمنافع الاجتماعية المتواضعة في مقابل الدعم السياسي والتغاضي عن الفساد المنتشر في أوساط قمة الهرم السياسي، ونظراً لأن الدولة عززت طوال عدة سنوات المواقف الاتكالية للعامة فليس مفاجئاً أن الكثيرين يعتبرون أن من واجب الدولة الحفاظ على نظام رعاية اجتماعية في وضعه الحالي، وأظهرت دراسة أجراها مركزا كارنيغي موسكو وليفادا في العام الماضي عدم رغبة أغلبية من شملتهم الدراسة في قبول مجرد تغيير بسيط في الفوائد: 77 في المئة مقابل 16 كما رفض 75 في المئة قبول السن الأعلى للتقاعد.

وعلى أي حال فإن اقتراح التقاعد ليس العامل الوحيد وراء هبوط شعبية بوتين الذي بدأت أجندة سياسته الخارجية الناجحة تفقد زخمها في تحقيق دعم شعبي في وجه الإحباط الداخلي المتزايد، وحتى وقت قريب عكست شعبية بوتين العالية بعد ضم شبه جزيرة القرم إنجازه الرئيسي في نظر الشعب الروسي، والمتمثل بجعل روسيا دولة عظيمة من جديد في الخارج، وكانت شعبية بوتين شهدت تحسناً بعد حربه على جورجيا في شهر أغسطس 2008 لكنها بدأت بالتراجع بصورة بطيئة حتى دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي عام 2014.

تراجع شعبية بوتين

في شهر فبراير الماضي وفي خضم حملته الانتخابية الرئاسية تعرض بوتين الى تراجع تام في شعبيته وصل الى 76 في المئة منخفضة عن 84 في المئة قبل سنة خلت، وقد يكون بوتين نجح في جعل روسيا عظيمة من جديد في ميدان السياسة الخارجية، ولكن الوقت حان الآن للالتفات الى مشاكل روسيا الاقتصادية والاجتماعية الكثيرة بما في ذلك خطر التضخم والخدمات الطبية غير الكافية ومتاعب السكن والمنشآت والمناخ العدائي في الشركات المتوسطة والصغيرة، ومع بلوغ حملة إعادة انتخابه ذروتها عادت شعبية بوتين إلى معدل 82 في المئة في شهر أبريل وبعد الانتخابات مباشرة، وعلى أي حال تعرضت تلك الشعبية الى تدهور سريع وثابت بعد ذلك.

ردة فعل الكرملين

يتعين على واضعي السياسة في روسيا الآن تحديث طرق الحشد الجماهيري لمواجهة تراجع شعبية بوتين، ويجب عليهم الاستمرار في تحسين صورة سيد الكرملين على شكل بطل التاريخ الروسي المجيد والكنيسة الأرثودكسية والانتصارات الرياضية ومشاريع البناء الطموحة والقوة العسكرية، ولكن هذه التكتيكات لم تعد فعالة كما كانت الحال في الماضي.

ومن المتوقع أن تستقر شعبية بوتين عند مستويات أدنى مستدامة، ولكن هذا التغير ليس قاتلاً وكان الرئيس الذي سبقه، بوريس يلتسين، استمر في الحكم من دون أي دعم شعبي الى حد كبير، وعلى الرغم من ذلك إذا استمرت النسبة المتدنية لشعبية بوتين فإن من المحتمل أن يحاول الكرملين خلق حدث من نوع ما بغية صرف الانتباه عن مشاكل روسيا الاجتماعية الكثيرة. وربما يسعى الى مضاعفة مبادراته الدراماتيكية في ميدان السياسة الخارجية، لكن ذلك– كما ذكرنا– لم يعد فعالاً كما كانت الحال في الماضي، وقد أظهر استطلاع أجراه مركز ليفادا في شهر يوليو تحسناً بارزاً في المواقف الايجابية نحو الغرب بعد الأولمبياد في روسيا، وعلى سبيل المثال ارتفعت المشاعر الايجابية نحو الولايات المتحدة الى 42 في المئة من 20 في المئة في شهر مايو.

وربما تتمثل طريقة أخرى في صرف انتباه العامة في الاستمرار في تسونامي الاعتقالات الأخيرة التي شملت جواسيس مزعومين وخونة روسيا، من كارينا تسوركان التنفيذية في شركة إنتر راو الروسية للطاقة التي اتهمت بأنها جاسوسة رومانية– مولدوفانية الى العالم فيكتور كودريافتسيف– 74 سنة– الذي يزعم جهاز الاستخبارات الروسي أنه نقل معلومات سرية الى أجهزة الاستخبارات الغربية، وكلما ازدادت غرابة هذا القضايا كانت أكثر فعالية في صرف انتباه العامة عن المشاكل الاجتماعية المكلفة بالنسبة الى بوتين.

وتجدر الإشارة الى أن بوتين– من وجهة نظرية– ملزم بحسب الدستور الروسي بالتنحي في سنة 2024 ولذلك فإن التخطيط والسعي الى خلافة سياسية في نهاية المطاف ليس بعيداً عن أذهان الناس في روسيا، وقد يزيد تراجع شعبية بوتين احتمال ظهور خليفة له في سنة 2024، لكن بوتين سيشعر براحة فقط إذا كان خليفته مثل ما كان هو بالنسبة الى يلتسين الذي اختار بوتين لرئاسة روسيا من أجل المحافظة على الإنجازات السياسية التي تحققت في حقبة التسعينيات من القرن الماضي، والتي لم يسهم بوتين فيها، وعلى أي حال، وبشكل رئيسي، فقد تم اختيار بوتين من أجل ضمان أمن يلتسين وعائلته وشركائه السياسيين.

احتمالات المستقبل

وعلى هذه الجبهة أثبت بوتين أنه أكثر قدرة وفعالية، وإذا لم يتمكن من ضمان هذا النوع من الخليفة– الحامي فقد يجد طريقة من أجل البقاء في الحكم بعد سنة 2024 وربما من خلال تعديل الدستور الروسي، وعلى أي حال فإن اتباع هذه الطريقة قد يعزز رغبة العامة في إحداث تغير سياسي واجتماعي.

وبالنسبة الى الوقت الراهن، أظهر الهبوط الحاد في شعبية بوتين أنه ليس في مأمن على الصعيد السياسي كما كان يعتقد في السابق، ومن أجل إصلاح هذا الوضع يتعين عليه وعلى خبراء الاستراتيجية السياسية في الكرملين تحديد طريقة العمل في المستقبل.