قبل ثلاثة عقود تقريباً، طرح العالم السياسي الأميركي والمسؤول السابق في إدارة كلينتون جوزيف ناي فكرة في صفحات «فورن بوليسي»، دعاها القوة الناعمة، فلاقى هذا المفهوم رواجاً كبيراً وصاغ حقبة ما بعد الحرب الباردة.ذكر ناي أن الولايات المتحدة قد تبدو أضعف نسبياً مما كانت عليه نحو نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن هذا البلد ما زال يملك مصدر قوة فريداً يمكنه الاستعانة به، فضلاً عن استخدام القوة العسكرية «لتحقيق مسائل والسيطرة على أخرى»، أوضح ناي لاحقاً أن الولايات المتحدة، «كي تدفع الآخرين إلى القيام بمسائل ما كانوا ليقوموا بها لولا ذلك»، تستطيع الاعتماد على قوتها الناعمة، وقوتها غير القسرية، بغية ترسيخ مكانتها القيادية في العالم.
في العقود بين ثمانينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، ازداد عدد الديمقراطيات الجديدة (كما تعرّفها منظمة «فريدوم هاوس») من نحو مئة إلى ما يُقارب المئة والخمسين، كذلك ارتفع عدد اقتصادات السوق الحرة الرأسمالية، بالاستناد إلى تصنيفات نشرتها مجلة «وول ستريت جورنال» ومؤسسة التراث، من أكثر من 40 إلى ما يُقارب المئة. لم يسبق أن شهدنا في كامل تاريخ الإنسان حقبة مماثلة تخلى فيها هذا العدد الكبير من الدول عن هذا الكم الهائل من الترتيبات السياسية والاقتصادية القديمة من أجل تبني نظام جديد.بالإضافة إلى ذلك قادت الولايات المتحدة السعي إلى تأسيس وتوسيع المؤسسات الدولية التي تدعم نظامها الجديد، مثل منظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي.سارت التطورات على نحو مماثل في أوروبا، حيث أدى الاتحاد الأوروبي دوراً مشابهاً للولايات المتحدة، فقد تطابق اقتراح بروكسل تماماً مع طرح ناي، وأرادت كل الدول الأعضاء والدول الأعضاء المحتملة ما رغب فيه قلب أوروبا الغربية، وفي مرحلة ما بدا كما لو أن الجميع يريدون ما ترغب فيه أوروبا الغربية، حتى تركيا وأوكرانيا التي خاطرت بخوض حرب مع روسيا في محاولتها للانضمام.بعبارات أخرى، بدا حتى وقت ليس ببعيد كما لو أن الولايات المتحدة، والغرب، وإمبراطوريتهما العالمية القائمة على القوة الناعمة ستهيمن على القرن الحادي والعشرين، لكن الأوضاع سرعان ما تبدلت.
مواضع الخلل
ظهرت مواضع خلل عدة لم تلائم المنتجات المستهلكين، بدءا من ديمقراطيات «الموجة الثالثة» في السبعينيات والثمانينيات إلى دول أوروبا الشرقية التي سارعت إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي بعد الحرب الباردة وصولاً أخيراً إلى الدول التي خاضت الربيع العربي، واجهت الديمقراطية الليبرالية صعوبة في الانطلاق، حتى إنها أدت في حالات كثيرة إلى نتائج كارثية للشعوب المعنية.واستفاض عالم الاجتماع الألماني فولفغانغ ستريك في تحليل هذه الفكرة خلال مؤتمر في تايوان هذا الصيف، فحذّر من أن عولمة القوة الناعمة «تتجاوز قدرة المجتمعات الوطنية والمنظمات الدولية على بناء مؤسسات فاعلة للحوكمة السياسية والاقتصادية». في المقابل يقود «الدين المتفاقم، وعدم المساواة المتنامية، والنمو غير المستقر إلى أزمة عامة في القدرة على الحكم سياسياً واقتصادياً». فولّدت هذه الأزمة ثورات داخلية في موطن القوة الناعمة، ويدعو ستريك هذه العملية «استعادة السيطرة».تشمل المشاكل الأخرى واقع أن القوة الناعمة هشة جداً ومن السهل عكسها، فطوال عقدين من الزمن، بدا من المستحيل وقف القوة الناعمة التي انطلقت يداً بيد مع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. فقد شكّلت المحفز في عدد من الثورات الملونة التي أطاحت بحكومات وفككت دولاً، كذلك هلل الغرب عندما أجج موقعا «غوغل» و»فيسبوك» نار الثورة في ميدان التحرير في القاهرة والميدان في كييف، إلا أنه استاء حين استغلت روسيا المناورة ذاتها لتعطل السياسات في الغرب.أما اليوم، فتنتشر القوة الصلبة في كل مكان، وتشكّل الولايات المتحدة بالتأكيد أكبر لاعب في هذه اللعبة.هنالك أيضاً روسيا وكوريا الشمالية، بكلمات أخرى لا شك أن عهد القوة الناعمة قد ولى ليحل محله عهد القوة الصلبة، وهذا خطر.دور الصين
من الممكن أن نطمح إلى صيغة أفضل هذه المرة، وهنا يأتي دور الصين، ففي مقال ناي الأصلي عن القوة الناعمة، قلما يأتي على ذكر الصين، وعندما يتناولها، إما يشملها مع الاتحاد السوفياتي أو يقلل من شأنها كبلد يفتقر إلى القدرة الناعمة منها والصلبة لتبديل هيمنة الغرب.ولكن بعد مرور ثلاثين سنة، يبدو استبعاد ناي الصين غريباً، ففي عهد القوة الناعمة كانت الصين الدولة الكبيرة الوحيدة التي جنت الفوائد من هذا الميل، فنجحت في الانضمام إلى نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الدولي بتوسيعها روابطها الثقافية والاقتصادية العميقة والشاملة مع كل دول العالم تقريباً. نتيجة لذلك، أصبحت اليوم الأمة التجارية الكبرى في العالم وفي التاريخ، إلا أنها رفضت بإصرار أن تصبح أحد مستهلكي القوة الناعمة الغربية.بخلاف معظم الدول التي اختبرت التغيير الكبير، حققت الصين النجاح بسرعة ونطاق غير مسبوقين في تاريخ الإنسان، فتحوّلت من بلد زراعي فقير مغمور إلى الاقتصاد الصناعي الأكبر في العالم من خلال تعادل القدرة الشرائية.قبل نحو عقدين من الزمن، صاغ الاستراتيجي الصيني الشهير زينغ بيغيان مصطلح «الصعود السلمي» ليعبر عما تطمح إليه الصين لنفسها. ولعل هذا السبب الذي يدفع الصين إلى الانتقال من القوة الصلبة إلى الناعمة، مع أن سائر دول العالم تسير في الاتجاه المعاكس على ما يبدو. على سبيل المثال دعا الرئيس شي جين بينغ إلى «مجتمع له مصير مشترك» يسمح للأمم باتباع مسارات تنمية خاصة بها مع العمل في الوقت عينه على تعزيز الترابط بينها. أما في مجال السياسة فتُستمد هذه القوة الناعمة عموماً من مبادرة الحزام والطريق، التي تستغل رأسمال الصين الضخم وقدرتها الكبيرة بغية تحفيز التنمية القائمة على البنى التحتية في دول أخرى، وذلك بهدف تعزيز النمو الاقتصادي الذي يعود في نهاية المطاف بالفائدة على الصين نفسها.في حقبة ما بعد الحرب الباردة، ربط الغرب القوة الناعمة بالليبرالية، إلا أن هذا الربط لم يكن ضرورياً مطلقاً. وفي القرن المقبل قد تسود القوة الناعمة المنفصلة عن العقيدة، وما من شك، في بكين على الأقل، في أن أي نوع من القوة الناعمة قد يقوم وينجح من دون القوة الصلبة، لكن طرح الصين يبدو أكثر قدرة على التكيّف مع الاختلافات، فبعدم إرغامها الدول الأخرى على تبني ما تتبعه، قد يعني شكل الصين الجديد من القوة الناعمة أن يعم سلام أكبر القرن الحادي والعشرين، ويجب أن يتبناه العالم بالتأكيد.