بعض الدعاة ضيعونا
الإنترنت وصل يا سادة! فُتحت قُبَب المساجد للأقمار الصناعية، وتسربت جلسات نخب الشريعة، وتفشت للعوام الأمور الخطيرة، من فتوى غريبة، وتكفيرات معممة، وفضحت الأجهزة الأمنية دعاة تورطوا بتمويل خلايا إرهابية، وإثر ذلك وصم الناس المتشدد بالإرهابي، واتهموا المنفتح بأنه مُميع للدين، أما صاحب الروحانيات المترفة فحكموا عليه بنشر البدع، ووسط كل هذه الاتهامات المتناقضة التي أربكت إيمانيات الناس استشرس دعاة بالجرح والتعديل في سير بعضهم أمام الملأ، فما مصير شباب الأمة؟ التعميم على سائر الدعاة والعلماء ظلم، ولا أخص بهذا المقال مذهباً أو تيارا، فذكر اسم معين سيزيد الطين بلة، فالغرض ليس استعداء الناس في هذا الوسط الملتهب، بل القصد هو مجرد قراءة موضوعية للوضع المرتبك الحالي ودعوة للدعاة المشهورين بالإنترنت؛ كما باللفظ العامي «يهدوا اللعب!».دخل جهاز التلفاز عالمنا العربي فحرّمه بعض علماء الدين بفتوى أنها تصواير، والصور من الأصنام، ثم غرس الكل فوق السطوح الأطباق الصناعية ليروا المغنيات اللائي كانت أصواتهن تُسمع بالراديو في كل مكان، فهرع دعاة الإصلاح لاقتحام الإعلام على اعتبار مزاحمة أهل الفساد ضرورة، وظهر جيل من الشباب تربى على أئمة التلفاز ليكونوا أكثر توازنا في العصرية والتدين بل الوطنية.
فكيف لوزارة الإعلام أن تبث أي كلام لشيخ ذي منهج يستفز أمن الدولة؟ فجيل الثمانينيات والتسعينيات كان أكثر توازنا نفسيا وروحانيا من جيل الألفية، فمن منا يتذكر بداية ونهاية بث كل قناة تلفزيونية حكومية بآيات من الذكر الحكيم؟ وفجأة طنين الإنترنت السلكي المزعج صار يدوي كل بيت في أواخر التسعينيات، فحرّموه ثم اقتحموه بقوة في الألفينات، بغيت فتحه فتحا مؤزراً، فهل نجح أكثرهم؟ شيخ في لندن يشتم رموز حكومات دولة خليجية ويدعو إلى نفير عام باسم الدين، وغيره يدعو إلى تكفير ذوي المذهب الفلاني، وداعية ذو حس فكاهي يقحم نفسه بشؤون دولة جارة ويحرض على ثورات «الخريف» العربي، وشاب يريد سماع كلام يطمئن له قلبه يلجأ لمتابعة شيخ وسطي فيرى مشايخ آخرين يطعنون في أمانته العلمية بحجة أنه منافق ينتمي إلى شيوخ السلطان. حقاً، التفسيق سبق به بعض الدعاة العوام، لذلك لجأ هذا الجيل الضحية إلى الحدة إما في الإلحاد أو تفجير البلاد، فهل نسي الضال والمضلول أن صميم ديننا السلام والأمان؟ ندعو؛ كعوام، الدعاةَ أن يتفوقوا على غير الإسلاميين بفن الحوار، فذاك الفن هو إرث أئمة مذاهبنا التي نتمذهب بها جميعا، كما ندعوهم أن يتسموا بالستر والصفح عن أشخاصهم، وكبت دهاليز الفقه، وصرف المواضيع التاريخية الشائكة عن مرأى ومسمع غير المختصين، فليس كل ما يُعرف يُقال ولكل مقام مقال، وثمة مقامات أكاديمية غير «تويتر» و»يوتيوب»! وبدورنا كذلك كمسلمين نقدر ونوقر مشايخنا الأجلاء من دعاة الحكمة والوسطية، الذين لم يهيجوا العواطف لا لإرهاب ولا لسياسة «خوارج»، بل فسروا لنا آية كريمة وشرحوا حديثا شريفا، فوعظونا لطبطبة رأس اليتيم وتقبيل جبين الكبير، والتصدق على المسكين والرفق بالقوارير، الزوجات، فلو نجح بعض الدعاة بردع أنفسهم عن الغيبة والنميمة لما كان الإنترنت إلا خير شاهد على تطبيقهم دعوتهم. ولا أرى هذا المقال سوء أدب مع سماحة المشايخ، وفقهم الله لما يحبه ويرضاه، بل هو مجرد ذكرى، وإن الذكرى تنفع المؤمنين.