في صباحات مثقلة بصيف لا يخفف من وطأته إلا صوت الموج عند حافة تلك الصخرة التي تسكنها النوارس غير عابئة بموجة هائجة تلطم الصخرة مرة، وتعود ثانية فترحل ويبقى الزبد وبعض عشب البحر وليمة لتلك النوارس، في ذلك الصباح يغرد المغردون حزناً على رحيل شيخ الاقتصاديين ليس العرب فقط بل الاقتصاديين الماركسيين سمير أمين، ذاك الذي قيل لك وأنت تخطو في سنتك الأولى في تلك الجامعة العريقة والأسئلة تنحشر في الدماغ لا تجيب عنها الكتب المقررة ولا حتى بعض الأساتذة، قيل لك "اقرأ سمير أمين"، تبحث وعندها لم يكن صديقك "غوغل" ولا محركات البحث الأخرى متوافرة، بين الكتب المتراصة بعناية فائقة في تلك المكتبة المشعة بكميات من الفكر المعتق بين الأرفف. يأتيك أحدهم ويهديك نسخة من كتاب له ذاك الذي قيل إنه تحول للماركسية منذ سن السادسة عندما رأى ذاك الطفل مثله يبحث عن الطعام في سلة القمامة، فسأل أمه عن السبب ومضى هو في رحلة طويلة لم تنتهِ إلا منذ أيام، لم يتحول فيها أن يكون نصيرا لفقراء الأرض معاديا للرأسمالية، ولمن يروج لها وعلى رأسهم منظمات "برتنودز" الشهيرة التي تصول وتجول بين أروقة وزارات المالية والاقتصاد في أوطاننا هذه الأيام، يحمل مروجو فكرها والعاملون فيها في حقائبهم الفاخرة "رشوتات" جاهزة لأمراضنا الاقتصادية المزمنة، وهي في معظمها ستجعل من أطفالنا وأحفادنا دائنين حتى آخر قطرة عرق أو فقراء حتى آخر كسرة خبز!
عندما تساقط الكثيرون وتراجعوا أو "كوعوا" عن فكرهم الاشتراكي الماركسي، أو أي فكر نصير للفقراء والمعدومين بقي هو حاملا قلمه وفكره الأكثر قوة من أي طائرة أو بارجة حربية، يفضح الرأسمالية التي أثبتت العديد من التحولات الأخيرة في منطقتنا والعالم- انظروا إلى اليونان الحزين– صحتها، لم يتحول عن فكره بل أعاد الاعتبار له كلما وقعنا في مطب أو عبرنا خندقا مظلما. بصيص نوره الاقتصادي يبقى الأهم اليوم ليس لنا نحن العرب أبناء عرقه، بل أيضا لدى الكثيرين في العالم عندما عبر هو وكسر كل الحدود المصطنعة، وعاش كثيرا في إفريقيا وأوروبا، حيث دفن في فرنسا التي قضى فيها سنين طويلة يصارع الرأسمالية المتوحشة والعولمة أحد مظاهرها الأكثر شراسة.هو المجدد حتى للنظرية الماركسية في المركزية والأطراف، قبل وفاته وهو يصارع المرض أصر أن يبقى قريبا من التزامه منذ السادسة من عمره، فنشر في مجلة "أفريكازي" مقالة طويلة بدت وكأنها وصيته، في 2015 أصدر سمير أمين مذكراته "مذكرات يقظة الجنوب"، كان هو الجنوبي دوما عاش جنوبيا ومات جنوبيا لم يغير بوصلته أبدا. عبثا رحت أبحث عن كتبه التي كانت أول تلك الرحلة الطويلة، وأندم أنني لم أكمل قراءة مذكراته، هكذا يسرقنا الوقت دوما نحو اللاشيء واللهث اليومي الذي ينتهي بنص غفيان وقليل من النوم!وجيل كامل يعيد النبش بعد خبر الرحيل، ويدعو إلى جلسات حوارية للعودة لدراسة فكره، جاء خبر وفاة من كوّن وجدان هذا الجيل نفسه صديق البحر والنوارس الروائي السوري حنا مينة، فكانت بكائية جيل حقا، حيث يرحل من كوّن فكر جيل بأكمله، ومن رسم وجدانه وعلمه، كيف يكون الروائي هو الآخر أكثر صدقاً وقرباً من واقعه وواقع كثير من المهمشين ليكمل رسم تلك الصور لمجتمعات القاع العربية. هو، كما سمي نجيب محفوظ سورية، عرف كيف يحول كثيرا من قصص طفولته وحياته التي لم تكن سوى مسيرة طويلة من الكفاح له ولأسرته الصغيرة، حولها إلى سرد روائي شديد النعومة والرقة حتى أدركنا كيف يكون شكل المنزل الصغير في اللاذقية التي لم نزرها وشواطئها وملح أرضها. لم يخجل في معظم رواياته، وخاصة الأولى منها، أن يصف حياة كل الشرائح المجتمعية، وكثيرا من المهمشة منها، لم يبحث عن العالمية وما يشكل إغراء للجوائز كحال روائيي اليوم، ولم يشأ أن يحول المجتمعات التي يكتب عنها إلى أنماط تلائم أهواء أولئك الجالسين هناك في عواصم العالم يرسمون صوراً لنا وعنا لا تشبه إلا لوحات الاستشراق الأولى. بعد بضعة أيام من رحيل الاثنين اللذين نالا حظهما من النقد اللاذع أحيانا، واللذين قد تختلف أو تتفق معهما أو مع مواقفهما من بعض التحولات السياسية في بلديهما وما حولهما، إلا أنك لن تستطيع إلا أن تعترف بأن سمير أمين قد يكون آخر الاقتصاديين والمفكرين الذين شرحوا الاقتصاد الرأسمالي بوضوح كهذا، وحنا مينة نقش أحرفاً لواقع جميل ببساطته. تحرسهما النوارس وملح الأرض. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
تحرسكما النوارس وملح الأرض*
27-08-2018