السادات... مئة عام!
فعل الكونغرس الأميركي خيراً، بمنح الرئيس المصري الأسبق أنور السادات ميدالية ذهبية في الذكرى المئوية لميلاده، وذكرى مرور أربعين عاماً على توقيع اتفاقية كامب ديفيد. وحقيقة، وحتى إذا غضب الذين ما زالوا يعيشون أوهام "تجوع يا سمك" ويلوِّحون بسيوفهم الخشبية، فإن ما أقدم عليه هذا الرجل يُعد إنجازاً تاريخياً يدل على بُعد نظر قائد عظيم بالفعل، وإلا لكان وضع سيناء، وحتى قناة السويس، أسوأ بكثير من وضع هضبة الجولان.لم يترك العرب العاربة والمستعربة شتيمة ولا اتهاماً بالخيانة إلا وألصقوهما بالسادات؛ حياً وميتاً، لأنه أدرك مبكراً أن الأوضاع العربية ذاهبة إلى الانهيار، وأن أمورهم ستصل إلى هذه الحالة المأساوية التي وصلت إليها، وأنه لابد من استغلال لحظة تاريخية ثبت أنها لم تتكرر حتى الآن، كل هذا وقد دفع حياته ثمناً لإنجاز تاريخي حققه لمصر وللشعب المصري، والمفترض أيضاً للعرب والأمة العربية، واستعادة كل ذرة تراب أو رمل من سيناء، وحتى قناة السويس.
أيضاً كانت قراءة السادات للأوضاع العربية الراهنة في ذلك الحين، وأيضاً المستقبلية، حتى أقدم على خطوة كامب ديفيد، واستعاد سيناء كلها حتى قناة السويس، قراءة واقعية بعيدة عن أحلام اليقظة وهز القبضات المترهلة في الهواء.ولعل ما يدل على حالة البؤس التي كان يعيشها العرب، ومازالوا، أن بغداد التي احتضنت قمة الرد على كامب ديفيد شهدت كل هذا الذي شهدته منذ ذلك الحين وحتى الآن، وها هي، وللأسف، أصبحت ميداناً للتناحرات الطائفية والمذهبية، وصار يحكمها، وهي عاصمة الرشيد، الجنرال الإيراني قاسم سليماني وأتباع حراس الثورة الإيرانية، وذلك فيما عاصمة الأمويين أسوأ حالاً من عاصمة العباسيين!وهنا علينا أن نسأل أنفسنا السؤال الذي كان علينا أن نسأله قبل أربعين عاماً، وهو: ماذا يا تُرى لو أن السادات لم يتحلَّ بالشجاعة التي تحلَّى بها، وخضع لمزايدات المزايدين، واستجاب لما توجهت به إليه قمة بغداد غير العتيدة؟ ماذا كان من الممكن أن يحصل؟ وما أوضاع مصر الآن؟!الجواب هو: لبقيت قناة السويس شريان مصر الحيوي مغلقة على مدى كل هذه السنوات الطويلة، ولكانت خسارة أرض الكنانة فادحة وبمئات مليارات الدولارات، ولكانت سيناء ليست محتلة فقط حتى الآن، إنما مطرزة بالمستوطنات الإسرائيلية، على غرار ما هو عليه وضع الضفة الغربية، وما هو عليه وضع هضبة الجولان... وأيضاً فوق هذا كله لكانت الأوضاع الاقتصادية المصرية متردية بالفعل، على اعتبار أنها أوضاع اقتصادية عسكرية وحربية.وهكذا، فإنها شجاعة ما بعدها شجاعة أن يُقدم السادات، رحمه الله، على تلك الخطوة التاريخية المهمة، وفي اللحظة المناسبة، وحيث كانت قراءته لواقع تلك الفترة قراءة صحيحة، فيما قراءته للمستقبل الذي نعيشه الآن تدل على بُعد نظر، وعلى واقعية قائد ملهم بالفعل، مع الأخذ بعين الاعتبار دائماً وأبداً أن كل محاولات عزل مصر استناداً إلى قرارات قمة بغداد البائسة باءت بالفشل، بما في ذلك نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، ومع كل هذا بقي الشعب المصري العظيم في قلب أمته العربية، بل إنه بعد استعادة سيناء وقناة السويس ازداد احتضاناً لقضايا العرب الرئيسة، وفي مقدمتها قضية فلسطين، التي لا أهم منها قضية.