تنوير: عن المراهقة واستهلاك الحياة
عالمنا عجيب: فيه شعوب يغلب عليها الجد وتقديس العمل والسعي لتطوير الحياة وتحسين شروطها بنضج ومسؤولية، وشعوب يغلب عليها العبث واللعب واستهلاك الحياة في توافه الأمور مثل صبي عابث يمارس مراهقته لاهياً غير مكترث، وبين هذين الحدين هناك درجات من الجد والعبث تغلب على باقي شعوب الأرض. ليس الأمر حتمياً مفروضاً علينا، فقد تشهد الأمة الواحدة طوراً من أطوارها تكون فيه ناضجة منتجة للعلم والمعرفة والقيم ومطورة للحياة الإنسانية، ثم يأتي عليها طور آخر تصبح فيه على النقيض تماماً: مراهقة تستنزف أعمار أفرادها فيما لا يفيد.لكن كيف يصبح بعض الشعوب أكثر نضجاً من بعضها الآخر؟ ما الذي يساعد على نضج الإنسان عموماً؟ وما الذي يبقيها في فترة المراهقة عقلياً ونفسياً؟
في كل ثقافة وسائل تسمح للكائن البشري بالنضج، وعلى رأسها المعرفة المقدمة في مؤسسات التعليم وخارجها، والفنون والآداب التي تغذي روح الإنسان أو تفقرها، فكلما كانت المعرفة التي تغذي عقل الإنسان عميقة واقعية صادقة عن نفسه وعن العالم المحيط به، يصبح نضجه أسرع وقدرته على فهم ذاته ومحيطه الطبيعي والاجتماعي أعمق. الأهم أن تكون هذه المعرفة بذاته وبالعالم الذي يعيش فيه مقترنة بطريقة تفكير تسمح لها بتطوير نفسها وتعديل ما يمكن أن يكون خاطئاً فيها، فلا الإنسان ولا العالم أصبح منكشفاً لنا بصورة كاملة كي نتحدث عنهما بثقة مطلقة، ولهذا يصبح شرطا للمعرفة كي تسمى معرفة أن تكون مرتبطة بفكرتي التطور والتغير وتعديل الذات. وكلما كانت الفنون والآداب التي تغذي روح الإنسان راقية مبدعة، ارتفعت قدرته على تأمل نفسه ومحيطه، واتسعت مساحة الحب والتسامح باتساع القدرة على استشعار الجمال والتفاعل معه.تنضج الشعوب حين تقدم معرفة وفنوناً وآداباً تصقل وعي الإنسان، وتستطيع عن طريق كائناتها الناضجة أن تجيب عن أسئلتها الوجودية وتحديات عصرها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والإنسانية أيضاً.أما الثقافات والمجتمعات التي يضربها الجهل والادعاء والتعالم (وليس العلم) والتي يحكمها التسلط الاجتماعي والسياسي، والتي تحتقر الفلسفة والفنون والآداب لدرجة أن تصبح عمل من لا عمل له، فهي ثقافات ومجتمعات تحول بين إنسانها وبين النضوج، فترتبك مراحله النفسية والعقلية، ليصبح الكائن الإنساني متخلفاً عن أقرانه في مجتمعات وثقافات أخرى.في المجتمعات التي تهمل العلوم الإنسانية والفنون ويغلب عليها الادعاء والتعالم يتم سجن الإنسان في مرحلة المراهقة لفترة طويلة من حياته، وربما يتم إهدار حياته كلها بسبب غلبة المراهقة عليه لأنه لم يمارسها في وقتها وبصورة آمنة. تبقى المراهقة في الأفكار والمشاعر مثل شبح يؤرق الكائن، ولا يملك منه فراراً، فالكائن في تلك الثقافات فقير عقلياً ونفسياً، لأنه لم يعرف الكثير عن العالم أو عن نفسه، كما أصبحت روحه مهملة لا ينبت فيها إلا كل تطرف وعنف لا يستطيع أي منهما أن يتغلب على المراهقة العميقة التي تصاحب ذلك الإنسان المسكين لتهدر حياته.