في تجربة غير مسبوقة قدّم مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي، أمسية طربية لكلاسيكيات الموسيقى العربية، بعنوان «من غير ميكروفون»، أي بلا أجهزة صوتية، أحياها المطرب المبدع طارق بشير وفرقة «جابر» الموسيقية بقيادة د. محمد باقر، أمس الأول، على مسرح الشيخ جابر العلي.

استهل المايسترو د. باقر الحفل بكلمة مقتضبة، تمنى فيها للحضور الاستمتاع وقضاء أمسية سعيدة مع هذه التجربة الجديدة، التي تقدم للمرة الأولى على مسارح الدولة من دون ميكروفون أو أجهزة صوت إلكترونية، وهذه النوعية من الأمسيات تتطلب الهدوء، طالباً عدم استخدام فلاشات كاميرا الهواتف لأنها تؤثر على الأداء.

Ad

في البداية، قدم سامر إبراهيم عزفاً منفرداً على آلة القانون، ثم عزفت الفرقة مقطوعة «بشرف راست»، من ألحان عاصم بك الناياتي، ونوع المقام راست، والإيقاع مصمودي، من المعزوفات التي قدمت في نهاية القرن الماضي، ثم غنى الكورال «حير الأفكار»، كلماتها وألحانها مجهولة، نوع المقام كردان الراست، والإيقاع مربع، تقول كلماتها: «حير الأفكار بدري/ في صفا خده الأسيل/ من لغصن البان بزري/ في التثني إذ يميل/ سيدي لو كنت تدري/ صرت في الحب عليل/ فاغتنم بالله أجري/ واصطنع فعل الجميل»، وأتبعها الكورال بأغنية «يا شادي الألحان»، ألحان مجهول، نوع المقام كردان الراست، والإيقاع مصمودي.

ثم صعد إلى المسرح الفنان بشير، الذي أبدى سعادته البالغة بسماعه للفرقة خلف الكواليس، ليغني طقطوقة «حيرانه ليه بين القلوب» لليلى مراد، من كلمات أحمد رامي وألحان داود حسني، نوع المقام كردان الراست، والإيقاع وحدة، قدمت عام 1930، التي اقتطفنا من كلماتها: «رضيت جفاك بامتثال/ وسهرت وحدي وليلي طال/ مش ترحميه ليه تعذبيه؟/ ده القلب صانع للجمال».

لينتقل بعدها إلى «امتى الزمان»، كلمات أمين عزت الهجين، وألحان محمد عبدالوهاب، نوع المقام كرد، والإيقاع مصمودي وسماعي ثقيل، قدمت عام 1932، وأداها بشير بإحساس رائع، يقول مطلع الأغنية: «امتى الزمان يسمح يا جميل/ واسهر معاك على شط النيل».

ونظراً إلى الأجواء الجميلة في التلقي والتفاعل، غنى بشير لأم كلثوم «الورد جميل» بمصاحبة العود، وهي لم تكن مدرجة ضمن برنامج الحفل.

«أنا هويت وانتهيت»

وعادت فرقة جابر الموسيقية لتعزف إحدى المقطوعات الجميلة، وهي «ذكرياتي»، من ألحان محمد القصبجي، نوع المقام نهاوند، والإيقاع وحدة، قدمت عام 1944. لتتحوّل بعدها إلى «أنا هويت وانتهيت» كلمات يونس القاضي وألحان سيد درويش، نوع المقام حجاز كا كرد، الإيقاع مصمودي، قدمت عام 1921، وكان أداء الكورال لهذا العمل بحرفية عالية خصوصاً في هذا المقطع: «أنا وحبيبي في الغرام/ ما فيش كده ولا في المنام/ أحبه حتى في الخصام/ وبعده عني يا ناس حرام».

وعاد بشير ليغني «ليه يا بنفسج» لصالح عبدالحي التي قدمها في أربعينيات القرن المنصرم، من كلمات بيرم التونسي، وألحان رياض السنباطي، نوع المقام راست، والإيقاع وحدة، ثم مونولوغ انتقادي صاغه بيرم التونسي في ثلاثينيات القرن الماضي بعنوان «حاتجن يا ريت»، من ألحان زكريا أحمد، نوع المقام حجاز كار، والإيقاع وحدة، ليختتم بشير الحفل بأداء لافت ومتمكن مع «يا صلاة الزين» التي قدمت في عشرينيات القرن الماضي، من كلمات بيرم التونسي، ألحان زكريا أحمد، نوع المقام بياتي، والإيقاع مقسوم.

وبذلك انتهى الحفل وسط إعجاب الجمهور واستمتاعه بهذه التجربة غير المسبوقة، وظل يصفق عدة دقائق تحية لهذا الجهد الإبداعي. وتضمن الحفل أيضاً عزفاً منفرداً رائعاً لكل من أحمد حمزة على آلة الكمان وخالد نوري على الفيولا، ونالا تشجيع وتصفيق الحضور.

الموسيقى قديماً

يشار إلى أن الموسيقى قديما وعبر مئات السنين تعزف من دون مؤثرات صوتية (ميكروفون وسماعات ومكسر) ما أكسبها نقاء عالياً أوصل الإحساس بذبذبات الموسيقى الى المستمعين على نحو مباشر.

وعلى هذا الأساس، تستند فرق الأوركسترا الغربية إلى هندسة القاعة (أكوستك) وتوزيع الآلات بحيث يتم الاستغناء تماماً عن المؤثرات التكنولوجية.

وعرف الجمهور العربي قديماً الحفلات والعروض الموسيقية بتلك الطريقة في حفلات كثير من الفنانين مثل أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وصالح عبدالحي، وكان يقدم بعضها في الحدائق.

وتلك الحفلات كانت تعتمد على قدرة المطرب وفرقته الموسيقية والمهارة في الغناء وقوة الأداء للوصول الى آذان المستمعين.

وفي هذا الصدد، يشير كثير من الباحثين والمتذوقين إلى أن الأغنية المصرية بلغت ذروتها مع أغاني محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، لكن مما لا شك فيه أن النجاح الكبير الذي حققه النجمان الكبيران كان نتيجة تراكمية لألوان غنائية متوارثة. سبقهما إليها آخرون.

وكانت تلك هي موسيقى القرن الـ 19 وبدايات القرن الـ 20 الثرية بألحان ومقامات وضروب إيقاعية لم تشع لاحقاً في الموسيقى المصرية، ونجومها فنانون كبار مثل محمد عثمان وسيد درويش وداود حسني وغيرهم.

طارق بشير

يعتبر المطرب طارق بشير أحد الأصوات الطربية المتخصصة في الغناء الشرقي الكلاسيكي مثل الأدوار والموشحات والمواويل، إذ يعد من خلال مساحة صوته وأدائه المتمكن من الأصوات النادرة القادرة على إعادة احياء التراث العربي السائد في العهد العثماني وعصر النهضة العربية.

ويمتاز بشير أيضاً بعزفه على آلة العود في مجال التقاسيم والقطع الموسيقية العربية، فهو يعزف العود على الطريقة المصرية وينتمي تحديداً إلى مدرسة محمد القصبجي، وقدم كثيراً من الألحان إلى جانب كتابته العديد من الأشعار الغنائية باللغة الإنكليزية.