لها هي... كوة في جدار

تبحث المرأة في بلادنا عن مساحة هنا أو هناك، تسرق حتى تلك النافذة المردودة لتعانق الشمس نهارا وفي لياليها تحرسها أقمار ونجوم ونيازك، هي تدرك أن كل ما يسمى تطورا في وضع المرأة لم يرقَ بعد لدرجة احترام آدميتها، تبتسم طويلا نساؤنا من شواطئ المغرب عند المحيط حتى آخر موجة عند بحر العرب، ويحتفلن ببعض من نسمة تمرّ عبر قانون من هنا أو أخرى بعد ضغط من منظمات دولية وهيئات مجتمع مدني.

اعتادت هي أن تسير خلفه رغم أنه هو الآخر قد وضع في دائرة ضيقة، وقيل له إنه حر، فصدّق الكذبة الكبرى في أوطان احترف إعلامها المدجن الكذب حتى صدّقه هو، وأصبح مادة للسخرية والتهكم، في مجتمعات شطبت من قواميسها كلمة حرية وكرامة حتى تحول الجميع إلى مجرد أدوات،

هي اعتادت أن تحتفل بما يسمى انتصارات عبر قانون هنا، أو توسيع المساحة التي تتحرك فيها هناك، فيما بقيت غير قادرة على منح أبنائها الجنسية أو حتى أحيانا فتح حساب مصرفي لهم!

عليها أن تفرح دوما بما يسمى إنجازاً في عرف أنظمة مغلقة ومنقمسة في ثقافة الكبت، فمرة يردد ذاك صفقوا صفقوا، فلقد مُنحت نساؤنا الحق وقمنا بكذا وكذا، قائمة طويلة مما هو مسلّم به في المجتمعات الديمقراطية التي تحترم مواطنيها كلهم دون تمييز حسب الجنس أو العرق أو الطائفة! ولكن كيف لأنظمة بهذا الشكل أن تفقه وتفسر قلة الحماس الذي ينتاب الحضور عند الحديث عن مثل هذه الإنجازات المضحكة حد البكاء!

تأقلمت هي مع تناقضات مجتمعها، فراحت تحتال عليه تارة، وتمارس النفاق الاجتماعي أحيانا، ورسم صور متعددة، إحداها ما يريده المجتمع منها، وأخرى يشبهها هي فقط، هي التواقة للسير فوق الرمال حافية القدمين رافعة فستانها حتى الركبة، أو ما فوقها دون أن تكون عرضة للأنظار الساخنة من ذكور يرون فيها فريسة، وشيوخ دين يرددون «ركبة بل قدم المرأة حرام حرام».

هي أيامها لا تشبه أيام البشر الآخرين، حيث تبدأ من صباحات الفجر لتمارس مهماتها كمسؤولة عن الأسرة حتى لو لم تكن متزوجة، وتنتهي عند ساعات الليل المتأخرة بعد أن تطمئن على آخر فرد في الأسرة، حتى ذاك الذي يقضي لياليه في الأندية الليلية، ويعود مع صياح الديكة، فتصغي هي بإمعان لصوت مفتاح الباب لتغمض عينيها وتعرف بعض النوم إن استطاعت إليه سبيلا!

عندما يسوء الوضع الاقتصادي يطلب منها أن تساهم وتقتحم سوق عمل يرفضها أصلا، ولا يقبل بوجودها إلا كمساعدة تجلس خلفه وتساعد مديرها في العمل، وتسعى يوما إلى نيل رضاه حتى لو كان ذلك على حساب كرامتها، فهي ترى في نظراته الكثير من القبح إن لم نقل النزق، ومع ذلك تخفي ألمها بل غضبها خوفا من عقاب المجتمع أو من الفصل من العمل، كم من امرأة ارتضت بالكثير من الغمز واللمز اليومي والنظرات الوقحة وأحيانا اللمس وغيره، كل ذلك خوفا من الفضيحة أو أن تلام هي كما يحدث كثيراً عبر لومها على لبسها أو طريقة حديثها، ألا تلام الضحية بدلا من الجاني في مجتمعاتنا؟

وفي نهاية يوم عمل شاق تعود إلى منزل تديره هي لتوفر الراحة لكل فرد، وتسعى إلى تلبية كل الطلبات مهما كانت شاقة وصعبة، وحين يحين موعد القرارات المصيرية عليها أن تجلس في الخلف تستمع إلى الرجال لأنهم ربما صدقوا أنها «ناقصة عقل ودين».

هي التي تتحمل الفشل لأي فرد في العائلة، فيما النجاحات هي من نصيب الأب الذي يورث أبناءه الذكاء والاجتهاد، فما النساء إلا أوعية للحمل والولادة والطبخ والنفخ والكوي والتنظيف، انظروا الكم الهائل من الرجال المكتظين في المقاهي الشعبية، يحتسون القهوة والشاي واليانسون، ويلعبون الطاولة أو الورق برفقة الشيشة، فيما النساء بالقرب منهم يقفن في طوابير طويلة لتوفير وجبة اليوم وبعض «الستر» للعائلة.

هي نفسها التي تحافظ على ابتسامتها طوال اليوم، وتبحث مع رفيقات مثلها وهن كثر، عن بعض فسحة للهروب من واقع بعيد بعض الشيء عما تراه في تلك الأفلام والمسلسلات العاطفية أو حتى في روايات الأدب عن قصص العشق المعتق في قلبين، وعن الحب المتجدد حتى بعد سني الزواج. تتذكر تلك اللحظة التي قال لها فيها «سأبقى أحبك وأشتاق لك كما الآن حتى لو بلغتِ الثمانين من العمر».

كم كانت ساذجة ربما عندما صدقته وهو يقول سأحب كل تجعيدة على وجهك، فهي إشارة لتجربة عشتها وكل ما عشته جميل، فما إن غزت التجاعيد الوجه الحسن كان هو أول من عايرها بها حتى صارت النساء أفواجاً يزحفن إلى عيادات التجميل فأصبحن كلهن شكلاً واحداً، وكأنهن دمى خارجة من ماكينة باربري أو هيفاء وهبي لا يهم، كلهن فقدن بريقاً كان في أعينهن سعيا إلى المحافظة على الحب الذي كان، وخوفاً من امرأة أخرى تخطف الزوج والحبيب فيتحول كل الماضي إلى محض سراب!

هي خديجة ومنة وفاطمة ومارلين وكوليت وزينب وزبيدة وأخريات، إما أمهات وزوجات وأخوات وإما فتيات يتعرضن إلى جانب كل هذا الكم من الانتهاك لحقوقهن إلى التحرش والاعتداء والتخويف، لهن جميعا نحن بحاجة إلى حركة شعبية تتكاتف لتغيير هذا الواقع، وإلا فلن نتطور كمجتمعات ولن نتعلم كيف نكون مواطنين بحقوق وواجبات، ولن نعرف معنى أن تكون متساويا ليس في الميراث والحقوق بل في الحب والعشق.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية