يقع كتاب «التاريخ والذاكرة» في أربعة فصول، في الفصل منها بعنوان «ماضٍ/ حاضر» يبحث المؤلف جاك لوغوف في التعارض بين الماضي والحاضر في علم النفس، فيرى أن دراسة التصرفات الفردية في تعاملها مع الزمن تدلّ على أن السلوك الطبيعي توازن بين وعي الماضي والحاضر والمستقبل، مع غلبة استقطاب وُجهَتُه المستقبل، المتوجَس منه أو المرغوب فيه. ويسأل: ما هي نسبة التجديد التي تقبل بها المجتمعات في تعلّقها بالماضي؟

Ad

«عتيق (قديم) حديث»

في الفصل الثاني «عتيق (قديم) حديث»، يقول لوغوف إن التعارض بين عتيق وحديث تطور في سياق ملتبس ومركّب، لأن لا تعارض دائماً بين المفردات والمفاهيم، فقد استُبدلت كلمة عتيق بكلمة قديم وتقليدي، واستُبدلت كلمة حديث بكلمة قريب العهد أو جديد؛ ولأن مضامين مدّاحة أو سلبية أو حيادية صاحبتهما.

يشير إلى أنه عندما ظهرت كلمة حديث في اللغة اللاتينية المتأخرة، لم تحمل إلا معنى حديث العهد، وحافظت عليه طوال العصر الوسيط؛ أما كلمة عتيق فربما عنت ما يعود إلى الماضي، وتحديداً إلى تلك الحقبة من التاريخ التي أطلق عليها الغرب منذ القرن السادس عشر اسم العصور العتيقة، أي الحقبة التي سبقت انتصار المسيحية في العالم الإغريقي – الروماني.

وتحت عنوان عتيق (قديم)/ حديث والتاريخ: مساجلات القدامى والمحدثين في أوروبا قبل الثورة الصناعية (بين القرنين السادس والثامن عشر)، يجد المؤلف أن النهضة الأوروبية عكّرت الظهور المرحلي للحديث المتعارض مع العتيق (القديم). فهي التي أعطت بشكل قاطع كلمة العصور العتيقة معنى الثقافة الإغريقية - الرومانية، وحبّذت هذه الثقافة. فالحديث لا يستحق الأفضلية إلا إذا قلّد القديم.

الذاكرة

في الفصل الثالث «الذاكرة»، يتحدث لوغوف عن الذاكرة الإثنية، فيبدو له التمييز بين الثقافات الشفوية والثقافات الكتابية في ما يتعلق بالمهمات الموكولة إلى الذاكرة مؤسسة على كون العلاقات بين هذه الثقافات تتوسط تيارين مغلوطين في غلوّهما، يؤكّد أحدهما أن البشر كلهم يمتلكون الإمكانات نفسها، ويقيم التيار الثاني تمييزاً واضحاً بين الهُم والنحن.

وتحت عنوان نهوض الذاكرة، من الشفوية إلى الكتابة، ومن فترة ما قبل التاريخ إلى فترة العصور الإغريقية واللاتينية، يرى لوغوف أن الكتابة أتاحت للذاكرة الجمعية شكلين من التقدم: الأول هو إحياء الذكرى، أو الاحتفال بحدث مرموق في صرح تذكاري؛ فيما ارتبط الشكل الثاني للذاكرة بالوثيقة المكتوبة على حامل معدّ خصيصاً للكتابة.

وفي ما يتعلق بالذاكرة القروسطية في الغرب، يرى أن الذاكرة الجمعية التي تشكّلها الطبقات الحاكمة في المجتمع تعرّضت لتحولات عميقة، ينجم قسمها الأكبر عن انتشار المسيحية كدين وكأيديولوجيا مسيطرة وعن احتكار الكنيسة شبه الكامل المجال الفكري.

يتناول لوغوف أشكال التقدم في الذاكرة المكتوبة والمصورة، من عصر النهضة إلى أيامنا، فيقول إن المطبعة أحدثت تغييراً ثورياً بطيئاً في الذاكرة الغربية. وعن التقلبات المعاصرة للذاكرة، يقول إن التاريخ الجديد الذي يسعى إلى إنشاء تاريخ علمي انطلاقاً من الذاكرة الجمعية، يمكن أن يفسَر بأنه ثورة الذاكرة، إذ يدفع الذاكرة إلى الدوران حول محاور أساسية.

فلسفة التاريخ

في الفصل الرابع بعنوان «التاريخ»، يوضح لوغوف مفارقات التاريخ والتباساته، فيسأل: هل التاريخ هو علم الماضي أو ليس ثمة تاريخ إلا التاريخ المعاصر؟ ويتناول موضوعية الماضي والتلاعب به، والمفرد والكوني في تعميمات التاريخ واتساقاته.

يرى أن تاريخ التاريخ يجب ألا يهتم بالإنتاج التاريخي الاحترافي فحسب، بل بمجموعة كبرى من الظواهر التي تشكل الثقافة التاريخية أو بالأحرى العقلية التاريخية في حقبة من الحقب وأن التاريخ يحتاج إلى تقنيات ومناهج، وأنه يُدَرَس، وهذان أفضل برهانين على أنه علم، وعلى أنه يجب أن يكون علماً، متناولاً الصلة الوثيقة التي تربط التاريخ بالوثائق.

وفي باب التاريخ اليوم، يذكّر لوغوف بمشكلتين يواجههما التاريخ اليوم: الأولى هي مشكلة التاريخ الإجمالي والعام، النزوع القديم إلى تاريخ لا يكون تاريخاً كونياً وتوليفياً، بل هو تاريخ شامل وكامل، أو شمولي وتام؛ والثانية هي الضرورة التي يشعر بها منتجو التاريخ ومستهلكوه بأن التاريخ السياسي يعود. وهو يؤمن بهذه الضرورة، بشرط أن يثرى هذا التاريخ السياسي الجديد بإشكالية التاريخ الجديدة، فتكون أنثروبولوجيا سياسية تاريخية.