خيارات الاقتصاد الروسي مع بدء الفترة الرئاسية الأخيرة لبوتين
المأزق الذي وقع فيه بوتين له أهمية عالمية، نظراً إلى الترسانة النووية الروسية، والدور الجيوسياسي الذي تؤديه، ولفهم كيف آلت الأمور إلى ما هي عليه الآن في واحدة من أبرز إمبراطوريات الماضي، يتطلب ذلك العودة بضعة عقود إلى الوراء.
عُرفت روسيا القرن الماضي بالعديد من الألقاب مثل بوتقة الشيوعية أو إمبراطورية الشر أو البلد المنبوذ دولياً، واشتهرت بـ«تجربة اقتصاد السوق»، والآن ومع بدء فلاديمير بوتين ولايته الدستورية الأخيرة رئيساً للبلاد، يجب عليه أن يقرر ما ستكون عليه في المستقبل، خصوصاً أن خياراته ليست كبيرة، بحسب تقرير لـ«بلومبرغ».لقد تسبب الحكم الأوتوقراطي للبلاد وارتفاع أعمار السكان في إضعاف قدرة الاقتصاد على النمو، ما يهدد بفترة من الركود التي قد تؤلب المواطنين ضد بوتين، الذي يؤكد سعيه تحقيق إنجاز ملموس لكنه في الواقع لا يضمن الشروط الحاسمة لإحداث ذلك مثل حفظ حرمة الملكية الخاصة والحرية الشخصية، وكيف ذلك والنخبة الحاكمة في الكرملين تستمد ثرواتها وقوتها من انتهاك مثل هذه الحقوق.إن المأزق الذي وقع فيه بوتين له أهمية عالمية، نظراً إلى الترسانة النووية الروسية، والدور الجيوسياسي الذي تؤديه، ولفهم كيف آلت الأمور إلى ما هي عليه الآن في واحدة من أبرز إمبراطوريات الماضي، يتطلب ذلك العودة بضعة عقود إلى الوراء، إذ كان المناخ فوضوياً إلى درجة جعلت صعود زعيم سلطوي إلى حكم البلاد أمرا لا مفر منه.
الاستقرار والنمو
- في نهاية التسعينيات، كانت روسيا تصارع انهيار جهدها غير المسبوق لترسيخ الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية في بلد لم يعرف ذلك قد، وفي ظل غياب المؤسسات التي يمكنها استبدال السيطرة السوفياتية، وعدم كفاية الدعم الغربي، عمت الفوضى.- استخدم الطماعون والاستغلاليون والمحظوظون بما يكفي للاستحواذ على الثروات التي تجعلهم من أصحاب النفوذ، نظام العدالة ووسائل الإعلام كأسلحة في معارك لا نهاية لها من أجل الهيمنة وضمان السلطة.- كافح المواطنون الروس العاديون للتكيف مع الوضع، وكثيراً ما أمضوا أشهراً بلا مرتبات أو معاشات، وبلغت هذه الاضطرابات ذروتها مع تخلف البلاد عند سداد ديونها والانخفاض المفاجئ لقيمة العملة عام 1998، مما أربك الرئيس بوريس يلتسين وتسبب في فراغ السلطة.نزاع اجتماعي
- بحلول ليلة رأس السنة الجديدة 1999 عندما استقال يلتسين، كان الروس يائسين من النظام الحاكم في البلاد، لذا دعموا رئيسهم الجديد فلاديمير بوتين الذي تحرك سريعاً وبقوة لتعزيز سلطته، وعلى مدار السنوات التالية نفى وسجن العديد من الأشخاص ذوي السطوة المالية والسياسية، وأعاد السيطرة الحكومية على وسائل الإعلام، وأخضع البرلمان لنفوذه، وبدأ تعيين المحافظين بدلاً من انتخابهم في السابق.- برز نزاع اجتماعي ضمني آنذاك، مفاده بأنه إذا بقي الشعب بعيداً عن السياسة، فإن الاستقرار والنمو سيتحققان على يد بوتين، الذي حقق بعض الإصلاحات المطلوبة بالفعل، وعهد بالسياسة المالية والنقدية لمجموعة من الاقتصاديين الليبراليين، الذين بسطوا النظام الضريبي وضبطوا الموازنة الحكومية وفرضوا المزيد من الانضباط على المستوى الفدرالي. - من عام 2000 إلى 2008، ازدهر الاقتصاد، وتضاعف الناتج المحلي الإجمالي للفرد المعدل وفقاً لمتغيرات التضخم والقوة الشرائية، وبنهاية عام 2008 تجاوزت نسبة قبول بوتين في الشارع الروسي 80 في المئة، رغم أن تحسن الأداء الاقتصادي جاء مدفوعاً بهبوط العملة عام 1998.- وفر التحسن الاقتصادي غطاءً لإعادة توزيع الثروة بشكل كبير، ومع امتلاك الدولة لأصول أصحاب النفوذ المخلوعين، ظهرت نخبة جديدة على قمة الاقتصاد الروسي، كان لأعضائها علاقات مع بوتين، غالباً جاءت خلال خدمته في جهاز الاستخبارات «كيه جي بي» أو أثناء عمله رئيساً لبلدية سانت بطرسبرغ.- تضاعفت حصة الدولة في الاقتصاد إلى نحو 45 في المئة، مما دفع صندوق النقد الدولي عام 2007 للتساؤل عما إذا كانت الدولة هي أفضل مدير للأصول، نظراً إلى الأداء السيئ للجزء الذي سيطرت عليه موسكو من قطاع الطاقة مقارنة بما يشغله القطاع الخاص.أزمة واحتقان
- في مايو عام 2008، سلم بوتين الرئاسة مؤقتاً لرئيس وزرائه ديميتري ميدفيديف، الذي كان ينظر إليه على أنه مصلح ليبرالي نسبياً، وكشف الأخير عن برنامج طموح لإعادة التوازن إلى الاقتصاد الروسي بعيداً عن النفط، وتعهد بحماية الحريات المدنية والاقتصادية والكفاح من أجل احترام حقيقي للقانون.- لكن شيئاً لم يحدث، وفي غضون أشهر، بدأت الأزمة المالية العالمية في تقويض المكاسب التي حققها الاقتصاد الروسي في السنوات الثماني السابقة، ما اضطر الحكومة للتدخل من أجل السيطرة على الخسائر، ونما دور الدولة في الاقتصاد أكثر مع إنقاذها بعض الشركات، في حين تسبب الركود في الإطاحة بشركات أخرى.إنفاق سخي
- لكن الإنفاق السخي بهدف تهدئة الناس والجيش، أدى إلى إضعاف الأوضاع المالية الحكومية، وفجأة انقلبت الأمور، وحافظ الحزب الحاكم بالكاد على أغلبيته في الانتخابات البرلمانية عام 2011، وتظاهر الآلاف في الشوارع، ونمت أعداد المحتجين بشكل كبير قبيل انتخابات عام 2012 الرئاسية التي تنازل عنها ميدفيديف لـ«بوتين» مقدماً.- فاجأ حجم الاحتجاجات الكرملين، مما دفعه إلى اتخاذ إجراءات صارمة تشبه الدولة السوفياتية البوليسية، إذ اعتدت الشرطة على المتظاهرين السلميين بالضرب وسجنت بعضهم، ووجهت لهم تهماً جنائية، وفي النهاية أصبحت التجمعات العامة كلها مستحيلة، وزجت السلطات بأبرز معارضيها في السجن، وتحول الانتباه من الاقتصاد المتعثر إلى ما سماهم «بوتين» الأعداء الداخليين والخارجيين.- في هذه الأثناء واصلت النخبة المقربة من السلطة الاستفادة من هدر ثروات الدولة وممارسات الفساد، ومن الأمثلة البارزة على ذلك، دورة الألعاب الأولمبية الشتوية عام 2014 في سوتشي، والتي تكلفت 50 مليار دولار جعلتها الأعلى تكلفة على الإطلاق، علاوة على عقود بمليارات الدولارات استفاد منها قادة الأعمال المقربون من بوتين.- انخفض معدل قبول بوتين في الشارع الروسي أدنى 60 في المئة في هذه الأثناء، لكن تزامن ذلك مع ضم موسكو لشبه جزيرة القرم، في خطوة أظهرت قدرات الجيش واستثارت الحس الوطني، ليعيد بوتين صياغة الميثاق الاجتماعي واختصاره في «حصول الروس على الكبرياء الوطني بدلاً من الرخاء مقابل ولائهم له»، وبحلول يوليو عام 2014، ارتفع معدل قبوله بين المواطنين إلى 86 في المئة.