ورثت تشيلسي كلينتون صفة الاتزان من والدتها، لذا يشمل كلامها دوماً فقرات رتيبة تتألف في معظمها من لغة لا يستعملها عامة الناس. تقول مثلاً: «كانت الخيارات التي قاما بها محورية بالنسبة إليّ وخوّلتني أن أثبت نفسي فيما كنت أرسم مسيرة حياتي». لا يتكلم الناس عموماً عن أهاليهم بهذه الطريقة!

نشرت تشيلسي للتو ثالث كتاب للأطفال بعنوان (صمدت حول العالم) حيث تسرد قصص 13 امرأة استثنائية على مر العصور، بدءاً من ماري كوري وصولاً إلى ملالا يوسفزاي التي ناضلت في وجه الأحكام المسبقة وغيّرت وجه التاريخ. أنجبت تشيلسي وزوجها مارك ميزفنسكي ابنة أطلقا عليها اسم شارلوت (4 سنوات) وابناً هو أيدن (سنتان).

Ad

توضح تشيلسي السبب الذي دفعها إلى إصدار كتابها الأخير قائلة إنها أرادت أن تكشف للفتيات، والفتيان أيضاً، الإنجازات التي حققتها النساء تاريخياً. ذكرت في كلامها الأبحاث التي أجراها «معهد جينا ديفيس» وأوضحت أن أبطال أكثر من 80% من أشهر الرسوم المتحركة التي تستهدف الأولاد هم من الذكور وتتحدد معالم الشخصيات النسائية في المقابل بحسب علاقتها بأولئك الأبطال.

بدأت تشيلسي تقرأ الصحف حين كانت في الرابعة من عمرها: «كان والداي يتوقعان مني أن أُكوّن رأيي الخاص عن أهم القصص في نظري قبل أن أتمكن من طرح حجّة تدعم ما أعتبره صائباً أو خاطئاً. علّماني منذ مرحلة مبكرة الفرق بين الرأي والحقيقة». أضافت بنبرة جافة: «هذا الفرق أساسي لكن لا يقدّره كثيرون راهناً للأسف».

كانت تشيلسي في الثانية عشرة من عمرها فقط حين انتقلت إلى البيت الأبيض وكانت عبارة عن مراهِقة غريبة ذات شعر مُجعّد تضع دعامات لتقويم الأسنان. كان عمرها 18 عاماً حين اعترف والدها المثالي في نظرها بعلاقته مع مونيكا لوينسكي. ثم غطّى 250 صحافياً على الأقل وصولها إلى جامعة «ستانفورد» حيث تعرّضت للانتقاد لأنها فضّلت الابتعاد عن عدسات الكاميرا واختبأت في السكن الجامعي المضاد للرصاص، قبل أن تُنتقَد مجدداً لأنها احتفلت مع المشاهير عندما انتقلت إلى جامعة «أكسفورد» لنيل شهادة ماجستير في العلاقات الدولية.

حاولت تشيلسي أن تعمل في شركة «ماكينزي» للاستشارات الإدارية ثم في صندوق تحوط لكنها لم تجد نفسها في هذه المجالات: «حاولتُ أن أهتم بمسائل مثل المال لكني لم أكن أبالي بهذه الأمور». بعد نيلها شهادة ماجستير أخرى (في مجال الصحة العامة)، أصبحت مراسلة خاصة في قناة «إن بي سي» لكنها تعرّضت لانتقادات لاذعة. وصف أحد النقاد قرار توظيفها بعبارة «الإفلاس الصحافي»، وكتبت مجلة «نيويورك» في عنوانها الرئيس: «تشيلسي كلينتون على قناة «إن بي سي»: أسوأ مظاهر المحسوبيات».

أهمية النوايا

أعلنت مساعدة تشيلسي أن وقت المقابلة انتهى لذا أطفأتُ آلة التسجيل، لكن طلبت إليّ تشيلسي أن أعيد تشغيلها. أرادت أن تتابع الكلام لما كانت الفرصة سانحة. قالت إنها فكرت كثيراً بأهمية النوايا منذ وفاة باربرا بوش: «كنت أعارض زوجها في مسائل كثيرة، لكني لم أشك يوماً في اقتناعها بأن ما تناضل من أجله مع زوجها كان ليفيد معظم الأميركيين. كانت مقتنعة فعلاً بأنهما صائبان».

«كنت أظن أن النتائج النهائية هي الأهم، أي عدد الأشخاص الذين تحسنت حياتهم، أو نجوا من الموت، أو تمكنوا من الذهاب إلى المدرسة من دون تكبّد الديون، أو استفادوا من الرعاية الصحية، فضلاً عن أعداد النساء اللواتي يُجبَرن على دفع كلفة إجازة الأمومة. ما زلت أؤمن بأن هذه المسائل هي الأهم، ولكني أؤمن أيضاً بأهمية النوايا والأسلوب والنزاهة لأنني أظن أن الانهيار الذي نشهده راهناً يمكن إصلاحه، كما أتمنى، عبر تغيير التوجهات السياسية حين ننتخب الديمقراطيين. لكن يجب أن نعمل بعد انتخابنا أيضاً على إصلاح اللغة المستعملة في بلدنا وفضح المشاعر العنصرية المتزايدة تجاه الأشخاص الذين يختلفون من حيث الانتماء العرقي والجنسي، ويجب أن نحارب أيضاً مظاهر رهاب الإسلام والمثليين ومعاداة السامية. لا بد من فضح هذا الفساد».

الحركات النسائية

لم يكن حذرها في التعاطي مع الأسئلة الموجهة إليها مفاجئاً على الإطلاق. بعدما أصبحت تشيلسي الآن نائبة رئيس مؤسسة عائلية، يبدو أنها وجدت الدور العام الذي يناسبها: تنظيم حملات لتمكين الفتيات، وتأمين التعليم للأولاد منذ مرحلة مبكرة، وإطلاق مبادرات عالمية في مجال الرعاية الصحية. لكنها لم تتصرف كأي شخص عادي في النصف الأول من المقابلة بل بدت أقرب إلى نهج سياسي ناطق.

حين سألتُها مثلاً إذا كنا نعيش الآن في أفضل العصور الداعمة للحركات النسائية، بفضل إطلاق هاشتاغ #MeToo (#أنا_أيضاً)، والأسوأ من ذلك بفضل ترامب، كان جوابها مبهراً وعميقاً في آن، حتى أنه بدا ثقيلاً من الناحية الفكرية. يمكن اختصار فكرتها العميقة بما يلي: «أظن أن التقدم ممكن ويجب أن نشعر دوماً بالمسؤولية تجاه المهام الموكلة إلينا بطرائق معينة. لكنّ هذه النزعة ليست حتمية بل يجب أن نحميها ونُطوّرها في كل لحطة».

انتقلت بعد ذلك إلى أسلوب أكثر بساطة للتذمر بشأن «القيود المفروضة على حق المرأة في اتخاذ قراراتها بشأن الإنجاب وقدرتها على تلقي الخدمات الصحية التي تناسبها وتناسب عائلتها، ولا شك في أن هذا الحق غير مضمون في بلدنا».

تابعت: «لكن حصلت تغيرات غير متوقعة. لاحظتُ أن آراء الحركات النسائية منقسمة بين مجموعة تريد استغلال حملة #MeToo لإسقاط سلطة المجتمع الذكوري نهائياً ومجموعة تخشى أن يؤدي هذا السخط كله إلى إضعاف الدعم الذي تحصده. هل تؤيّد تشيلسي حتى الآن أسلوب الترفّع عن الشتائم؟ حدّقت بي بصمت للحظات وكأنها تقرر ما إذا كانت تريد أن تشارك في هذا الحديث ثم فتحت فمها وكأنها أصبحت حاضرة فجأةً وقالت: «لما كنت تعرّضتُ لِكَمّ هائل من الانتقادات اللاذعة منذ زمن لا يمكنني تذكّره، ولما كان الناس يوجّهون إليّ كلمات مريعة منذ طفولتي، فلم أعتبر يوماً الرد بهذا الأسلوب نافعاً. أن أردّ بأسلوب قاسٍ أو أهين الناس بطريقة شخصية... لا أظن أن هذا التصرف من شِيَمي».

هل تُقنع نفسها بأنهم لا يتكلمون عنها؟ أجابت بضحكة مكتومة: «طبعاً لا. أعرف أنهم يتكلمون عني. لكني أظن أن طريقة كلامهم عني ومواجهتهم لي مباشرةً أو عبر الإنترنت تعكس حقيقتهم لا حقيقتي أنا. ربما أتعرّض لهذا الهجوم الهمجي أحياناً لأنني شخص يرونه ويعرفونه فيشعرون بالغضب وسرعان ما يتفجّر ذلك الغضب بطريقة ما. أو ربما يغضبون مني أحياناً بسبب أمور قام بها والداي أو خطوات لم يقوما بها، لكنهم يفعلون ذلك لأنهم يتأثرون بالقصص الملفّقة عن تورطهما في الاتجار بالأطفال أو المخدرات أو جرائم مريعة أخرى».

عدم تجاهل كلمات الكره

كانت تشيلسي تظنّ أن أفضل ما يمكن فعله للتعامل مع «هذه الدناءة كلها» تجاهلها بكل بساطة. لكنها تضيف: «بدأ رأيي يتغير الآن لأنني أظن أنّ ما يفعله رئيسنا وعدد من المحيطين به لبث مشاعر الكره ونشرها على نطاق واسع أمر بالغ الخطورة. تُسجَّل راهناً مئات، لا بل آلاف، الحوادث في أنحاء المدارس الأميركية حيث يتشبّه الأولاد بالرئيس حين يهينون فتاة صغيرة أو ينشدون عبارة «ابنوا جداراً» في محاولةٍ منهم لتحقير الأولاد السمر وإذلالهم. ما عدتُ أتجاهل كلمات الكره التي يُوجّهها لي الناس في الشارع أو على مواقع التواصل الاجتماعي الآن لأنني مقتنعة بضرورة تسليط الضوء على هذه الظاهرة. يجب أن يعلن كل من يحمل برامج عمل مثلنا أن هذا السلوك خاطئ وغير مقبول كي لا يصبح جزءاً طبيعياً من حياتنا. يجب أن نحاول إخماد الشرور المتناثرة وإلا سنترك فراغاً عميقاً وأظن أن الظلمة ستملأ ذلك الفراغ».

شمل حساب تشيلسي على «تويتر» بعض النماذج الاختيارية لسدّ الفراغ بمسائل إيجابية. في السنة الماضية، دافع ترامب عن قراره إرسال إيفانكا لتنوب عنه في قمة مجموعة العشرين عبر التغريدة التالية: «لو طُلِب إلى تشيلسي كلينتون أن تحلّ مكان والدتها، حين كانت والدتها تبيع بلدنا، كانت مواقع «الأنباء المزيفة» لتدعو إلى انتخاب تشيلسي رئيسة للبلاد!».

غرّدت تشيلسي حينها رداً عليه: «صباح الخير أيها الرئيس. ما كان ليخطر لوالدتي أو والدي أن يُوجّها إليّ طلباً مماثلاً. هل كنت تقصد بيع بلدنا؟ آمل أنك لم تفعل».

تقول تشيلسي: «شاركتُ في احتجاجات عدة منذ الانتخابات وحضرت شارلوت ثلاثة منها على الأقل. لا أؤيد ما يفعله الرئيس لتدمير جوهر الهوية الأميركية».

توريث السياسة

إذا خلفت إيفانكا والدها في البيت الأبيض، كما يتوقّع البعض، هل سيُعتبر انتخاب أول امرأة كرئيسة للبلاد انتصاراً للحركة النسائية؟ أجابت تشيلسي: «في الواقع، لم أكن أؤيد سارة بالين حين كانت مرشّحة لتولي منصب نائبة الرئيس في عام 2008. أتمنى أن يكون ابني داعماً للحركة النسائية بقدر ابنتي. أظن أن أهم مسألة تتعلق بالمبادئ التي ندعمها وبطريقة تطبيقها أكثر مما ترتبط بجنس الشخص».

باستثناء بارون («عمره 12 عاماً، أتمنى أن يكون عمره 12 عاماً»)، لا تتعاطف تشيلسي مع أي واحد من أبناء ترامب: «هم راشدون وقرروا العمل في هذه الإدارة!». لو فازت والدتها في الانتخابات، تقول إنها ما كانت لتعمل معها. لذا سألتُها إذا كانت تنفر مثل غيرها من ميل ترامب إلى توظيف أفراد عائلته، فقالت: «يجب أن يتمكن الرئيس من توظيف كل من يحمل أفضل المؤهلات. لكني لا أظن أن عدداً كبيراً من الأشخاص الذين وظّفهم ترامب مؤهّل لمنصبه. لا أكتفي بالمطالبة بإدارة غير مرتشية وغير فاسدة ولا تركّز على تصعيب حياة ملايين الأميركيين فحسب، بل أريد إدارة كفوءة أيضاً. لذا تتعلق أهم مسألة في نظري بمعالجة التصادم بين مظاهر الوحشية وبين قلة الكفاءة والفساد التي نشاهدها في أنحاء الإدارة».

هل تتمنى مقاضاة الرئيس؟ «لا أفكر بهذا الموضوع بعد. لكني أؤمن بضرورة أن يتمكن روبرت مولر من متابعة تحقيقاته بشأن تورط روسيا في الانتخابات. شخصياً، أحصر تركيزي الآن بما يمكنني فعله للمساهمة في انتخاب أعضاء من الحزب الديمقراطي».

نظراً إلى سجل والدها، أردتُ أن أعرف ما ستشعر به لو نجحت ستورمي دانيالز في إسقاط هذا العهد الرئاسي: «لم أتابع هذه القضية بقدر ما تابعتُ كل ما يتعلق بالتحقيق بشأن تورط روسيا. لكني أظن أن أحداً يجب ألا يكون فوق القانون، لذا يجب أن تستمر أي تحقيقات يقوم بها مولر أو أي محاولات يطلقها الناس لمحاسبة الرئيس».

«أخطأنا في التركيز على التسامح»

انتهى وقت المقابلة منذ مدة لكن لم تُنْهِ تشيلسي كلامها بعد: «أظن أن أحد الأخطاء الفادحة التي ارتكبناها فترة طويلة كانت تتعلق بتركيزنا على التسامح، لكنها ليست خطوة كافية في نظري. تسامح الناس مع ظاهرة كراهية النساء، لكن هذه الظاهرة ربما تكون مدخلاً لآفات أخرى. نتمتع بميزة حرية التعبير، وهي بالغة الأهمية طبعاً، لكن يظن الناس أنها تمنعنا من رفض كلمات الكره على اعتبار أنها جزء من حرية التعبير. إلا أن حرية التعبير ليست مرادفة لحرية العواقب. يجب ألا تدخل السجن طبعاً عند التفوه بكلمات عنصرية، لكن لا بد من ألا تتمكن مثلاً من الترشح للرئاسة. لكن هذا ما حصل فعلاً!».