النظام السوري مصمم على استعادة كل المناطق التي خسرها، وبعدما ازدادت حكومة الأسد جرأة بسبب نجاحها في ترهيب سكان الغوطة ودرعا ودفعهم إلى الاستسلام، تستعد راهناً لمهاجمة إدلب بمساعدة الطائرات الحربية الروسية والجنود الإيرانيين.يبرر النظام السوري وحلفاؤه الهجوم المقبل على إدلب بادعائهم أنهم يريدون استئصال المجاهدين. تسيطر هيئة تحرير الشام، التي تقودها جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة، على 60% تقريباً من هذه المحافظة ويُقدَّر عديدها بنحو 10 آلاف مقاتل، وفق المبعوث الأممي الخاص إلى سورية ستيفان دي ميستورا، ويدعم وصف إدلب مراراً بـ"الأرض الخصبة للإرهاب" رواية النظام عن أن معارضة حكمه تتألف برمتها من مجموعات إرهابية، كذلك يحل المجتمع الدولي من أي مسؤولية تفرض عليه حماية المدنيين.
لكن توصيف المحافظة هذا غير دقيق، كان سكان إدلب في مقدمة الصراع ضد هيئة تحرير الشام، فمنذ تحرير إدلب من قبضة النظام (جزئياً في عام 2012 وكلياً في عام 2015)، عمل الكثير من مواطنيها على بناء مجتمع حر يعكس قيم الثورة. أُنشئ أكثر من 150 مجلساً محلياً لإدارة الخدمات الأساسية في المحافظة، وأجرى الكثير من هذه المجالس أول انتخابات حرة منذ عقود، وهكذا شهد المجتمع المدني المقموع منذ زمن ولادة جديدة، كذلك أُسست وسائل إعلام مستقلة، مثل إذاعة "راديو فرش" الشعبية، بغية تحدي احتكار النظام للمعلومات، ونمت أيضاً المراكز النسائية، ممكنة المرأة من المشاركة في السياسة والاقتصاد.هددت هيئة تحرير الشام هذه الإنجازات التي حُققت بتعب وكد، وحاولت هذه المجموعة الاندساس بين السكان المحليين، فمنذ سقوط حلب عام 2016 كثّفت محاولاتها لفرض عقيدتها بالاستيلاء على المؤسسات المحلية وإقامة محاكم الشرعية، كذلك تعاملت بلا رحمة مع خصومها المزعومين، وفي شهر ديسمبر مثلاً، اعتقلت أربعة ناشطين بارزين مهجرين إلى إدلب من مضايا، مدعية أنهم متهمون "بالقيام بأعمال إعلامية ضد هيئة تحرير الشام". ونجا رائد فارس، أحد مؤسسي راديو فرش، من محاولة اغتيال، شأنه في ذلك شأن غالية رحال، مؤسِّسة منظمة مزايا التي تدير ثمانية مراكز نسائية. بالإضافة إلى ذلك، أدى الصراع بين هيئة تحرير الشام ومجموعات الثوار الأخرى إلى مقتل مدنيين كثر، وزرعت موجة من عمليات الاغتيال والخطف من أجل فدية الخوف والغضب في نفوس السكان المحليين.ترافقت إعادة النظام السيطرة على الغوطة، ودرعا، ومناطق أخرى مع انتهاكات فادحة لحقوق الإنسان، فقد نفّذ النظام حملات لاعتقال منشقين مزعومين، كذلك أُرغم الرجال على التطوع في جيش النظام، وأُجبر كثيرون على توقيع وثائق تنص على أنهم لن يشاركوا في التظاهرات أو أي نشاطات مناهضة للنظام، وتعرضوا أيضاً للضغوط بغية البوح بمعلومات عن مجموعات الثوار، كذلك يعيش الصحافيون، والعاملون في المجال الإنساني، والناشطون المعارضون في خوف دائم من أن يُستهدفوا. ولا شك أن إعادة السيطرة على إدلب سيكون لها العواقب ذاتها: سيُسحق أي نشاط مدني يعمل في الضوء وستقوَّض التجارب الديمقراطية الواعدة، مما يسمح بالتالي للمتطرفين بالازدهار في العتمة.لكن الأسوأ من ذلك الإجماع الدولي المتنامي على أن النظام يشكّل الحل الأفضل للخراب الذي سببه. يحوّل المجتمع الدولي اليوم تركيزه نحو عملية إعادة البناء، معيداً تأهيل النظام من خلال مكافأة أولئك المسؤولين عن خراب البلد والضغط على اللاجئين للعودة إلى بلد لا تزال فيه سلامتهم مهددة بالتأكيد.يعي سكان إدلب أنهم سيُتركون على الأرجح لمصير شبيه بما واجهه أهل درعا والغوطة، ونتيجة لذلك بدأ الغضب من خيانة القوى التي يُفترض أنها ديمقراطية ينمو، بعدما كان متأصلاً عميقاً، إذ يدرك سكان إدلب أن مَن يريدون "الاستقرار" بأي ثمن يرون في مقاومتهم المستمرة مصدر إزعاج، لكن استعادة النظام سيطرته على إدلب لن تقود إلى السلام، فكم بالأحرى الاستقرار؟ على العكس، ستقضي على البديل الديمقراطي للاستبداد، وهكذا لا يبقى على المسرح سوى المجاهدين، الذين يزدهرون على أعمال العنف، والقمع، والاحتلال الأجنبي، والذين سيشكلون خطراً طويل الأمد يهدد المنطقة والعالم بأسره.* ليلى الشامي* «نيويورك تايمز»
مقالات
الضربة القاضية للديمقراطية السورية وشيكة
05-09-2018