منذ عشرة أيام تقريباً نشرت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة تقريرها الرسمي عن أوضاع الأقلية المسلمة (الروهينغا) في بورما، وما تعرَّضت له من أفعال تعد من جرائم الحرب، ومذابح جماعية من الجنود في تلك الدولة، الذين ارتكبوا جرائمهم المروعة بناءً على أوامر من بعض جنرالات الجيش. الموضوع هنا ليس عن تلك الجرائم الكبرى، وضرورة محاكمة مرتكبيها أمام المحكمة الجنائية الدولية، أو أي محكمة مختصة، كما أن القضية هنا ليست عن الموقف السلبي للسيدة أون سو تشي، رئيسة الوزراء الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، من هذه الجرائم المرعبة، لكن السؤال هنا: لماذا ارتكب الجنود أو الميليشيات البورمية مثل تلك الأفعال المرعبة؟ ولماذا تتصوَّر الأغلبية البوذية العادية، و"البوذية" عقيدة مسالمة أساساً، أن الأقلية المسلمة تشكل خطراً عليهم؟!
يمكن أن نطرح مثل هذا التساؤل عن معظم المجازر وجرائم الحرب في أي مكان بالعالم، وفي أوطان البؤس العربية لنا حصة الأسد منها، كالتي يرتكبها الجنود أو الميليشيات بناءً على أوامر من قياداتهم، دون أن تحرِّك تلك الأوامر الوحشية ضمائر الجنود المنفذين، الذين ربما ما كانوا لينفذوها لو كان الأمر مقيداً بقناعاتهم وضمائرهم.مثل السؤال السابق فكَّر فيه عالم النفس الاجتماعي ستانلي ملغرم، وهو اليهودي الذي تعرَّض والداه للملاحقة النازية في هنغاريا ورومانيا، مما دفعهما للهجرة إلى الولايات المتحدة. كان الشغل الشاغل لستانلي هو التساؤل: لماذا ارتكب الجنود في ألمانيا النازية مثل تلك الجرائم والإبادة الجماعية؟ وهل من المعقول أن يكون كل الجنود الألمان بتلك الوحشية دون ضمير؟!حُددت الإجابة عند ستانلي في وضع أسس تصوراته بمفهوم "الطاعة"، بعد أن قام بعدة تجارب مع طلبته في جامعة ييل الأميركية بداية ستينيات القرن الماضي، وكان منها تجربته الشهيرة حين اتفق مع شخص يقوم بدور الضحية، ويطلب مساعد ستانلي من الأشخاص موضوع التجربة إيصال هزة كهربائية وهمية إلى الضحية، وكأنه موضوع التجربة، بينما في الحقيقة الأفراد الذين يقومون بالتعذيب هم موضوع التجربة، وكان يطلب منهم مساعد ستانلي، الذي كان يمثل دور العالم القائد، زيادة قوة الصعق الكهربائي كلما أخطأ الضحية في الإجابة، وكان الضحية الكاذبة يصرخ تمثيلاً، ويسمعه الأفراد موضوع التجربة، مع تزايد قوة كل صعقة.النتيجة أن الأكثرية موضوع التجربة، كانوا ينفذون الأوامر التي تصدر إليهم بالتعذيب، وقلة منهم اعترضت على زيادة الصعق الكهربائي، وقاوموا أوامر وتوجيهات مساعد ستانلي.الخلاصة التي يصل لها ستانلي، أن الانتماء لمجموعة تحكمها سلطة ما يوفر ميزات كبيرة لهؤلاء الأفراد المنتمين لها الذين يقومون بـ"واجب الطاعة" للسلطة، معتقدين بشرعيتها وشرعية ما تصدره لهم من أوامر، وبالتالي نادراً ما يعترض أو يرفض أفراد منهم تلك الأوامر، مهما كانت موغلة في وحشيتها، فهنا الفرد "يوكل ويتنازل" عن قوة الضمير للقائد أو القوى المسيطرة (من يقوم بالتجربة)، ويسمي ستانلي هذه بالحالة التفويضية، فالميل للطاعة في تلك الكتل الاجتماعية يُعد شرطاً أساسياً للتنظيم الاجتماعي.طبيعي اعترض تلاميذ فرويد وغيرهم على نتائج ستانلي في نظرية الطاعة، الذين يرون أن نزعة العدوان موجودة في عمق الطبيعة الإنسانية دون الحاجة إلى صدور أوامر بتنفيذ أوامر من سُلطة عليا، لكن تبقى رؤية عالم الاجتماع النفسي ملغرم مصباحاً فكرياً يلقي بقعة ضوء كبيرة على مفهوم الانتماء للجماعة، وما توفره من أمن نفسي في التضامن والحماية من العدو الخارجي، وهذا العدو الخارجي أكثر ما يكون "وهمياً" من صُنع السلطة ذاتها، ولا تهدف من خلقه غير تكريس مصالحها وديمومتها، وما أكثر هذا "العدو الخارجي" المتآمر، الذي اصطنعته الأنظمة العربية، الذي قد يكون جماعة عرقية، أو أقلية طائفية أو دينية، أو دولاً مجاورة. المهم أن تصدق الأكثرية هذا الوهم... وتسير الشعوب المضللة بهديه كالقطيع.
أخر كلام
لماذا الطاعة؟
06-09-2018