رغم أن البصرة بقيت سنوات شرارة كل احتجاج شعبي في عراق ما بعد صدام حسين، اعتراضاً على الفساد وسوء الإدارة، فإن نوع ومستوى الاحتجاجات التي اندلعت الصيف الجاري يؤشران إلى تحول عميق في مجتمع الجنوب، سياسياً وثقافياً، في موازاة تحول أوضاع شط العرب الذي كان يعاني ملوحة المد البحري لكنه اليوم يواجه التلوث الكيميائي الشديد، وخصوصاً بمادة الكبريت التي أدت إلى تسمم نحو ٢٠ ألف شخص خلال أقل من أسبوع.

وبدأت الاحتجاجات بمطالب تتعلق بإمدادات الطاقة والمياه العذبة منذ يوليو الماضي، ولم تتمكن الحكومة من فعل الكثير، بعد أن انشغلت بالحرب المكلفة على «داعش»، وانهيار سوق النفط خلال الأعوام الأخيرة، الأمر الذي أدى إلى تصاعد الاحتجاجات، واستمرار سقوط الضحايا نتيجة للعنف المفرط لدى قوات مكافحة الشغب، وهو ما بلغ ذروته في احتجاجات يومي الاثنين والثلاثاء، إذ سقط نحو تسعة قتلى وأربعين جريحاً نصفهم من قوات الأمن، مما أنتج مشاهد دراماتيكية سواء خلال تشييع الضحايا أو المطالبة بمحاكمة القادة الأمنيين، وصولاً إلى اقتحام مبنى الحكومة المحلية وإحراق أجزاء منه، تتضمن وثائق وصفت بالمهمة حول العقود والنفقات المالية.

Ad

وفي موازة ذلك، تصاعدت الشعارات والمطالب، ولم تقف عند محطة لتحلية مياه البحر أو إيجاد وظائف لدى عمالقة البترول السبعة العاملين في الحقول العملاقة بالزبير والقرنة، وراحت الصفحات البصراوية على «السوشيال ميديا» تردد عبارة خطيرة جداً أثناء احتراق مبنى المحافظة بقنابل مولوتوف محلية الصنع، هي أن «الثورة في فرنسا بدأت بسبب نقص الخبز، وانتهت بقطع رأس لويس السادس عشر»، وهو اقتباس لم يكن حاضراً في الاحتجاجات السابقة الأقل غضباً، ولدى جمهور يؤمن بشرعية النظام، وشارك بنحو متميز في الحرب على «داعش»، إذ يقدر أن نصف عدد المقاتلين في المعارك الشرسة كان من أهل البصرة وفي الوحدات التكتيكية الحسنة التدريب.

وفشلت قوات الأمن ليل الثلاثاء والأربعاء في فرض حظر التجوال، وهو ما يمثل حالة نادرة في العراق، حيث يشيع استخدام هذا الأسلوب السهل أثناء الاضطرابات، وخرجت الفتيات لأول مرة مع الفتيان لمواجهة قنابل الدخان وخراطيم المياه الساخنة، ولعل وجودهن أدى إلى تهدئة الكثير من المنفعلين الذين استخدموا قنابل المولوتوف بروح انتقامية، إثر سقوط القتلي خلال الأيام الماضية.

وفي الصباح فوجئ الأهالي بأن المحال التجارية توزع علماً رمزياً يمثل إقليم البصرة الذي أخفق في الظهور بسبب معوقات سياسية وقانونية منذ ٢٠٠٨، في خطوة تذكر برغبة البصريين عام ١٩٢١ في تشكيل اتحاد كونفدرالي مع العراق يرفض ظهور سلطة مركزية في بغداد، في حادثة تاريخية شهيرة تعود إلى عهد الملك فيصل الأول.

وبادر الموسيقيون على وجه السرعة أيضاً إلى إنتاج مقطوعات الخشابة البحرية التي تشجع المحتجين وتشيد بمطالبهم، في إحياء لأغاني البحر المشتركة بين البصرة وشواطئ الخليج، والتي تعد فناً يتراجع في العراق لمصلحة ألحان الفرات الأوسط وبغداد.

وبدا مطلب اللامركزية الإدارية محط تفهم أكبر من جانب العراقيين خلال الأسابيع الأخيرة، بعد أن كانوا يعيبون على البصاروة الحديث عن إقليم فدرالي، ويتوقع بدء محادثات تناقش منح الحكومة المحلية صلاحيات بحجم الأعباء المتفاقمة، لكن كثيراً من البصريين يخشون أن تُستغل مظاهراتهم لإثارة مزيد من العنف المفرط، في مدينة تعدّ الشريان شبه الأوحد لاقتصاد العراق ومنافذه البحرية والبرية، وسيعني انهيار الدولة فيها توقفاً لكل شيء بالبلاد.