كشف التطور المفاجئ والسريع في احتجاجات البصرة، التي بلغت حد إحراق القنصلية الإيرانية هناك في حادث يكاد يكون الأول من نوعه على مستوى المنطقة العربية، أن المدينة تريد دوراً في السياسة العراقية وصناعة القرار حرمت منه منذ فترة تعود إلى العهد الملكي في الخمسينيات، بعدما كانت بمنزلة إمارة شبه فدرالية خلال العهد العثماني تربطها صلات وثيقة بالكويت وإمارة بني كعب في المحمرة، أكثر من صلتها السياسية بباقي المناطق المحاذية لشمالها، لكن التطورات هذه لم تقتصر على الموقف السياسي للبصاروة، بل انتقلت لتعيد صوغ أكثر من موقف حساس داخل عملية تشكيل الحكومة، مما قد يتضمن تراجعاً إيرانياً ثمنه خروج رئيس الوزراء حيدر العبادي من سباق الحكومة الجديدة.وزخرت صفحات المدونين والمثقفين والساسة البصريين بمعادلة صعبة، مفادها أنهم يتأسفون للعنف الذي أحرق أهم مباني الحكومة في المدينة خلال يومي الخميس والجمعة، وأدى إلى إحراق دراماتيكي للقنصلية الإيرانية ذات النفوذ المعروف في الملف العراقي، غير أنهم وجدوا أن هذا الفعل العنيف المباغت هو الوحيد الذي جعل بغداد مستعدة أخيرا للإصغاء إلى مطالب سياسية من مركز صناعة النفط والميناء البحري الوحيد لبلاد الرافدين.
ولم ينجح رئيس الحكومة حيدر العبادي في التفاعل السريع مع المطالب الاستثنائية للبصرة، وهي تخصيص ميزانية مستقلة عن موازنة العراق المالية تناسب عدد السكان، ومنح صلاحيات إدارية واسعة للحكومة كي تنهض بأعباء إدارة أربعة ملايين نسمة، ومشاريع استراتيجية كبرى بطيئة، ومعالجة انهيار في الحياة بلغ حد تسمم جماعي بسبب تلوث كيميائي لا يزال غامضاً في مياه شط العرب، حسب اعترافها.ونتيجة لهذا، فقد خسر العبادي، ولو مؤقتاً، حلفاء مهمين في قائمته من الشخصيات البصراوية المهمة، مثل محافظ البصرة أسعد العيداني، وهو وجيه اجتماعي معروف، وشيخ قبيلة تميم مزاحم الكنعان، وهو تكنوقراط بارز يحظى باحترام في مختلف مناطق العراق، كما أحدث هذا شرخاً بين العبادي وحليفه الأساسي المفترض مقتدى الصدر، الذي يرعى كتلة «سائرون»، الفائز الأول في انتخابات مايو الماضي، مع شركائه الليبراليين والشيوعيين، وهم الطرف البارز في مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة. وتتداول أوساط مطلعة في بغداد أن إيران اعتبرت أحداث البصرة ضغطاً سياسياً كبيراً موجهاً لنفوذها، وخصوصاً حين وصل الأمر إلى إحراق مقرات الميليشيات العنيدة الحليفة لها، ثم إحراق قنصليتها الضخمة على ساحل شط العرب في أبي الخصيب، لكن غضبها حتى الآن لم يترجم بشكل عنيف سواء في البصرة أو بغداد.وتذكر هذه الأوساط أن قادة الميليشيات لا يفضلون التصادم مع الحكومة أو المتظاهرين، ولا يرون مصلحة في البقاء في مواجهة مع مقتدى الصدر، لأنهم منهكون من مرحلة الحرب مع «داعش»، ويريدون حصة من الحكومة الجديدة لالتقاط أنفاسهم والاستعداد أيضاً لعقوبات أميركية متصاعدة ضد إيران ستبلغ ذروتها قبل نهاية هذا العام، وليس هناك من مخرج سوى بعض التهدئة في البصرة التي تعد العاصمة الاقتصادية للعراق، وبعض التوافق السياسي في بغداد، يسمح بفتح قنوات لتخفيف التوتر غير المعتاد داخلياً وإقليمياً.
وتفيد بأن الأجنحة المقربة إلى طهران أبلغت الصدر بأنها مستعدة للعمل معه على صيغته الهادفة إلى إحداث تغييرات وإصلاحات داخل بنية السلطة بالتفاهم مع مرجعية النجف الدينية العليا، لكن هذه الأطراف اشترطت ألا يكون العبادي مرشحاً لولاية ثانية، مقابل سحب الطلبات الإيرانية التي تحرج الصدر والنجف، وهذا ما قد يفسر التقارب بين كتلة الصدر والميليشيات، حين طلبتا السبت استقالة العبادي.وتؤكد الأوساط أن اجتماعاً مهماً عقد ليل الأحد ــ الاثنين، أو سيعقد اليوم الاثنين، لاستقبال ترشيحات جديدة لشغل منصب رئيس الحكومة، وسط حديث عن مفاجآت، وسيناريو لتعويض العبادي بمنصب يحميه ويعترف بدوره الإيجابي في وضع نواة لمسار إصلاحي حظي بإشادة عراقية ودولية خلال الأعوام الأربعة الماضية.