حين مُنعت ثلاث روايات كويتية لكل من: د. سليمان الشطي، وسعود السنعوسي، وعبدالوهاب الحمادي، وكنتُ حينها أعمل مستشاراً ثقافياً لوزير الإعلام رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، كتبتُ كتاباً بينت فيه موقفي المبدئي الرافض للمنع، وأشرت بشكل واضح إلى أن "العمل في إدارة الرقابة بات شيئاً من الماضي، وأنه أبعد ما يكون عن (رتم) وروح اللحظة الزمنية العابرة"، ولا أظن أن موقفي قد تغيَّر.في 31 أغسطس الماضي، وصلتني رسالة رقيقة من الصديق الناقد الأستاذ مجذوب العيدروس، الأمين العام لجائزة الطيب صالح/الأمين العام لرابطة الكُتاب السودانيين، تقول: "صباح الخير أخي طالب، هل الخبر المتداول عن منع رواية (مائة عام من العزلة) صحيح؟ لا أصدِّق أن الكويت يمكن أن تصدر قراراً كهذا!".
توقفت كثيراً أمام الرسالة، فأنا قبلها بسنة كنتُ في زيارة للخرطوم، وعلى عادتي باستيقاظي المبكر، وعشقي للأنهار، نزلت ماشياً على ضفة نهر النيل، فوجدتُ رجلاً يكبرني سناً جالساً لوحده على كرسي بلاستكي يقابل جريان النهر الصباحي الجميل. "صباح الخير".سلّمت عليه، واستأذنته الجلوس على كرسي بجانبه، فردَّ: "تفضل".جلستُ، وظل الرجل صامتاً ساهياً بعيداً بأفكاره، وربما همومه. ولأفتح حديثاً معه قلت له: "أنا من الكويت".ألتفت إليَّ بلفة رأسه السودانية التقليدية، وبصوت عميق همس بي: "وأنا من قرَّاء مجلة العربي".استوقفني ردّ الرجل، ولا يزال يحضر بي بين فترة وأخرى، فأنا عرَّفت بنفسي، وهو عرَّفني بقربه ومعرفته بالكويت وطني، كونه من قرَّاء مجلة العربي. نعم، الكويت صغيرة، لكن نعم أخرى تقول إن حضور الكويت، وعبر تاريخها، كان كبيراً ومضيئاً وحاضراً في محيطها الخليجي والعربي، وحتى العالمي.في ديسمبر 1958 صدر العدد الأول من مجلة العربي، وتالياً صدرت سلسلة "من المسرح العالمي"، وتأسست جمعيات النفع العام، ومن بينها فرق المسارح الأهلية، ورابطة الأدباء الكويتيين عام 1964، وكان الحدث الأهم يوم صدر المرسوم الأميري بتأسيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عام 1973، وما تبعه من صدور السلاسل الثقافية: "عالم المعرفة"، و"عالم الفكر"، و"الثقافة العالمية"، و"إبداعات عالمية"، ولاحقا "مجلة الفنون"، وتالياً في عام 1975 انطلق معرض الكويت الدولي للكتاب. إصدارات الكويت وسمعة معرضها الدولي وصلت واتصلت بأهم المفكرين والمبدعين والفنانين والمثقفين والقراء العرب، وشكَّلت حضوراً وجدانياً ثقافياً ما زال أثره الطيب قائماً حتى اليوم في نفس المتلقي العربي. الكويت حاضرة في الوجدان العربي، بوصفها ملاذاً للحرية والكلمة الصادقة، فالصحافة الكويتية منذ نهاية الستينيات، مروراً بالسبعينيات والثمانينيات، كانت واحدة من أهم الصحافات العربية، وكانت صفحات جرائدها تنطق بكل هموم وآمال أبناء الأمة العربية.صورة الكويت عربياً وعالمياً تشكَّلت بوصفها واحة أمان للحرية، وبوصفها بقعة ضوءٍ للفكر والإبداع، لذا يؤلم الجميع، جميع أبناء الكويت ومحبّيها، على طول وعرض الوطن العربي، أن تُمس هذه الصورة، أو أن يُلطّخ نقاء وجمال هذه الصورة.الرقابة، رقابة الكتب، في زمن الإنترنت ومحركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي ما عادت تخص نفسها، ولا عاد فعلها مرتبطا بفسح أو منع كتاب في الكويت، فأصداء ذلك ستطير، لتحتل الفضاء وتصل للقاصي والداني، وهذا يشير بشكل واضح إلى ضرورة إعادة النظر في طبيعة وآلية عمل إدارة الرقابة، ومن ثم قراءة طبيعة لحظة العصر والسير وفق معطياتها. ليس من قوة على وجه الأرض اليوم تستطيع منع كتاب! الكتاب محلّق في الفضاء، وموجود بكل معارض الكتب، وفي نقاط البيع الإلكترونية، وبالقرب من كل شخص، ولا يكلّف أكثر من ضغطة زر كمبيوتر أو تلفون ذكي، وبعدها يحضر الكتاب، كأسهل وأجمل ما يكون.الرقابة في شكلها وفعلها الحاليين هي إرث ثقيل من الماضي، وباتت تمسُّ أهل الكويت وسمعة الكويت، وهذا ما يجب الوقوف عنده والنظر في تغيره.
توابل - ثقافات
رقابة... لا يجوز!
12-09-2018