وصل ترامب إلى منصبه وهو مصمم بكل وضوح على عكس سياسة سلفه تجاه كوريا الشمالية لأنه اعتبرها جامدة وغير فاعلة، ولكن عندما لم تمنح مقاربة ترامب الأولى، التي ارتكزت على التهديدات والعدائية، أي بصيص أمل، انتقل الرئيس إلى التعاطي الدبلوماسي.خلال الأشهر القليلة الماضية، تراجع الموقف الأميركي من شبه الجزيرة الكورية بثلاث طرق مهمة تنبع مباشرةً من قمة سنغافورة. أولاً، قدّمت اللقاءات بحد ذاتها والتغطية الإعلامية التي رافقتها لكوريا الشمالية أداة أتاحت لها إعادة صوغ رأي العالم وزرع الشقاق في الائتلاف القائم ضدها، ولا شك في أن قرار ترامب التعاطي مع هذا النظام البغيض وفق صيغة رؤساء الدول التقليدية، وخصوصاً بالتزامن مع حملة السحر والاستمالة التي نفذتها كوريا الشمالية خلال الألعاب الأولمبية الشتوية، ساهم في تصوير كوريا الشمالية للعالم كدولة تقليدية، دولة تستحق على الأرجح التعامل معها. وهكذا، بعيد قمة سنغافورة، تغير موقف الرأي العام من كيم يونغ أون، ذلك الطاغية الذي نفذ عمليات قتل جماعي والذي يشرف على ما يُعتبر أسوأ نظام من معسكرات الاعتقال منذ الحرب العالمية الثانية، ليشهد تحسناً كبيراً، نتيجة لذلك، بات من الصعب بالتأكيد حشد القوى العالمية لاتخاذ أي تدابير ضده، وخصوصاً مع تراجع صورة الولايات المتحدة بحد ذاتها كقائد للعالم.
علاوة على ذلك، يُعتبر احتمال إخفاق المسار الدبلوماسي مقلقاً لأنه قد يمكّن العناصر الأكثر تشدداً في أوساط ترامب المعنية بالسياسة الخارجية. قد يكون العمل العسكري ضد كوريا ضرورياً في مرحلة ما، غير أن العواقب الكارثية المهولة التي قد تلي الضربة الأميركية الأولى تبرز أهمية ألا نسلك هذا المسار إلا في الظروف الأكثر سوءاً حين تتعرض الولايات المتحدة لخطر فعلي جلي، لكن إخفاق الجهد الدبلوماسي (الذي يبدو مرجحاً اليوم) قد يساهم في إعطاء المزيد من المصداقية لدعوات الصقور الكارثية على الأرجح التي تطالب باتخاذ خطوات فعلية، وخصوصاً بالنسبة إلى رئيس يفتقر إلى الشعبية سياسياً، ويميل عموماً إلى إضفاء طابع شخصي على السياسة الخارجية، ويحتاج إلى حشد قاعدة سياسية.لكن التحدي الأكبر الذي تصطدم به هذه العلاقة يبقى على الأرجح التوتر الذي ينشأ من جهود المصالحة الأميركية- الكورية الشمالية. استثمر الرئيس الكوري الجنوبي "مون جاي إن" الكثير من رأسماله السياسي في إصلاح العلاقات مع خصم أمته الشمالي، علماً أن هذا التوجّه يتلاءم مع ميوله السياسية الخاصة ورغباته القديمة في علاقات شمالية- جنوبية أكثر عمقاً، لكن حماسته للتوصل إلى صفقة واستعداده للميل باتجاه بيونغ يانغ يؤديان على ما يبدو إلى تفاقم التوتر مع الولايات المتحدة، فيما يدفعان الكوريتين إلى علاقات ألصق. دعا مون إلى روابط اقتصادية وسياسية أقرب بين الجانبين، إلا أن هذا يفوق ما تبدو واشنطن مستعدة لقبوله، كذلك يتخطى سعيه إلى إنهاء الحرب الكورية رسمياً ما يريده المسؤولون الأميركيون، وأخيراً، يخطط مون لقمم مستقبلية مع كيم، في حين يرفض ترامب حتى خوض المزيد من المحادثات.لطالما أساء المسؤولون الأميركيون تقدير قوة رابط الهوية العرقية الذي ما زال يعبر خط عرض 38 درجة شمالاً، وقد تعيد معارضة ترامب خطوات مون إشعال تلك النيران القومية، مقوضةً بالتالي النفوذ الأميركي. لا شك في أن وحدة الشمال والجنوب ما زالت تواجه عقبات كبيرة، كذلك يجب ألا نستخف بالروابط بين الشعبين الأميركي والكوري الجنوبي. رغم ذلك، يبدو أن إدارة ترامب تخفق في إدراك أن قطار السلام، عندما يغادر المحطة، تصعب السيطرة عليه، ومن المؤكد أن الدبلوماسية أفضل من الجمود، وخصوصاً عندما يحافظ هذا الأخير على وضع قائم خطير، ولكن إذا لم تُنفَّذ هذه الدبلوماسية بدراسة واستعداد كافيين، فقد تقود إلى ما هو أسوأ بكثير من الجمود، هذا هو الخطر الذي نواجهه اليوم في كوريا. وعلى غرار الطبيب الذي يتعهد وفق قسم أبقراط بـ"ألا يسبب الأذى أولاً"، يلزم أن يتذكر ترامب أن جهوده لشفاء المريض يجب ألا تقتله، ولكن من المؤسف أن حماسة ترامب لاختبار أمر جديد قادت الولايات المتحدة في مسار قد يجعلها في حالة أكثر ضعفاً مما كانت عليه قبل بدء العلاج.*ميتش ليرنر
مقالات
أين أخطأت الولايات المتحدة في مسألة كوريا الشمالية؟
12-09-2018