مرة أخرى... «نحن» وإيران!
كل الدول التي لديها الشجاعة لتمارس على نفسها عملية "النقد الذاتي"، الذي يُوصف بـ"البنَّاء"، لا تتردد في أن تلجأ إلى هذا الأسلوب في اللحظات الحرجة، حينما تشعر بأنها باتت تقف أمام منعطف تاريخي خطير، وهذا مارسته دول كثيرة، من بينها دول كبرى وعظمى، ومارسه حتى أشخاص عاديون عندما شعروا بأن عليهم أن يراجعوا مواقفهم، وأن يعيدوا النظر في كل أو بعض ما يفعلونه عندما يتأكدون أنهم ذاهبون في اتجاهات خاطئة. المقصود بهذا الكلام هم "الأشقاء" الإيرانيون، الذين من المفترض أنهم أدركوا بعد حوالي أربعين عاماً من انتصار ثورتهم أنهم سائرون في طريق خاطئ، وأنهم إذا واصلوا السير في هذا الطريق الوعر فعلاً، فإن نهاية نظامهم "المُعمَّم" هذا ستكون كارثية، وإن وحدة بلدهم ستصبح معرَّضة للتمزق والتشرذم... وهذه تجارب التاريخ متوافرة وكثيرة لمن يريد أن يستفيد ويتعلم من التجارب التاريخية.
كان على إيران أن تدرك، مبكراً، بعد انتصار ثورتها في فبراير 1979، أن التطلعات التوسعية للشاه محمد رضا بهلوي، ولوالده من قبله، هي التي عجَّلت بانهيار النظام الشاهنشاهي، وهذا ربما ينطبق أيضاً على أنظمة كانت قد مرَّت بلحظات طفرة عملاقة، كالاتحاد السوفياتي، الذي كان يُوصف بأنه عظيم، وكالنظام الإمبراطوري في الحبشة، وكالدولة العثمانية، وكالإمبراطورية البريطانية، التي لم تكن تغيب عن أملاكها الشمس، في فترة تألق لم تستمر... وهكذا، فإن أكثر الوقفات شجاعة هي الوقفة مع الذات، وكان على حُكام طهران أن يبادروا مبكراً إلى التوقف عند هذا المنعطف الخطير الذي انتهوا إليه هم وثورتهم، والذي إن لم يتوقفوا عنده ويعيدوا النظر في توجهاتهم، فإنهم سيدفعون الثمن الغالي الذي دفعته دول كثيرة.لم تكن إيران بحاجة إلى كل هذا "الانفلاش" السياسي والجغرافي المتدثر بعباءة مذهبية، وكان عليها أن تأخذ العِبرة من تلك النهاية البائسة التي انتهت إليها الدولة أو "الإمبراطورية" الصفوية، وكان الأفضل لها ولشعبها، بل لشعوبها، أن تكون علاقاتها مع دول الجوار القريبة والبعيدة علاقات مصالح مشتركة، على أساس حلِّ المشاكل معها، هذا إن كانت هناك مشاكل، بالأساليب والوسائل السلمية، وبالتفاهم والتنازلات المتبادلة، وبعيداً عن إرث بعض الفترات التاريخية التي بالإمكان وصفها بأنها كانت فترات سيئة ومريضة. لا مصلحة إطلاقاً، لا للشعب الإيراني أو الشعوب الإيرانية، أن "تنفلش" إيران كل هذا "الانفلاش" التوسعي والاحتلالي، فهذا سيعزز الخلافات، وسيضيف إلى العُقد والتعقيدات التاريخية عُقداً جديدة، والمفترض أن أصحاب القرار في طهران أدركوا أن ما يفكرون فيه لا يمكن تحقيقه على الإطلاق، وأن إغراق هذه المنطقة بالتطلعات الطائفية ستكون عواقبه وخيمة، وأن الإمبراطورية التي يحلمون بها على حساب إخوتهم العرب ليست غير ممكنة فقط، بل هي مستحيلة، لذلك فإن عليهم أن يبادروا إلى وقفة مع الذات، وإلى مراجعة حساباتهم الخاطئة هذه، بكل شجاعة، وأن يدركوا أن الأفضل لهم ولبلدهم أن يتخلوا عن كل هذا الذي يحلمون به ويسعون إليه، وهذه حقائق التاريخ متوافرة وكثيرة، وعليهم أن يتعلموا منها الشيء الكثير.