قضية الهجرة تفجر أزمة سياسية بين إيطاليا وفرنسا
تمثل المؤشر الأول على عزم وزير الداخلية الايطالي ماتيو سالفيني خوض معركة ضد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في اعلان الوزير أن حزبه يريد احداث خفض جذري في معدلات الهجرة وأن سفينة الانقاذ التي تحمل 629 مهاجراً من إفريقيا لن يسمح لها بأن ترسو في ميناء صقلية. وعبر الرئيس الفرنسي في رده على ذلك بشيء من الاستياء كما قال المتحدث باسم حركته السياسية إن «سياسة الحكومة الايطالية تثير الاشمئزاز»، ورداً عليه قال وزير الداخلية الإيطالي إن فرنسا إذا أرادت اظهار انفتاحها وتعاطفها فعليها الوفاء بما تعهدت به من إيواء وإطعام حوالي 100 ألف مهاجر إفريقي كانت ايطاليا حتى وقت قريب تستقبلهم سنوياً.وما بدا على شكل كراهية شخصية بين الرجلين قد برز في صورة معركة شاملة تهدف الى اجتذاب قلوب وعقول الأوروبيين، وعندما هاجم الثوار الليبيون المراكز الحكومية في طرابلس وهددوا الاتفاقيات التي أبرمتها الحكومة الايطالية مع حرس السواحل الليبية للحد من مغادرة المهاجرين من شواطئ شمال إفريقيا، سخر سالفيني من تلك التقارير مشيراً في حديثه الى الصحافيين «إلى وجود شخص ما وراء ذلك».
وأضاف أن ذلك هو «من بدأ حرباً في سنة 2011، وكان يجب ألا تبدأ مطلقاً، والشخص الذي يدعو الى انتخابات من دون استشارة الحلفاء والشعب والذي يحاول فرض قضية عن طريق تصدير الديمقراطية في طريقة لم تنجح قط»، ثم دعا الصحافيين الذين يريدون معرفة تلك الشخصية التي قصدها الى «طرح السؤال على باريس».وقبل أيام قليلة فقط دعا وزير الداخلية الايطالي سالفيني رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان الى ميلانو من أجل اصدار بيان، وكان أوربان هو من نصح دول أوروبا بتشديد الاجراءات على حدودها لمنع دخول المهاجرين من سورية التي مزقتها الحرب في سنة 2015. ووصف أوربان الوزير الايطالي بالقول «إنه بطلي وزميلي في مصيري وقدري»، فيما وصف ماكرون بأنه خصمه الرهيب، مشيراً الى وجود معسكرين في أوروبا يرأس ماكرون أحدهما، وهو يتزعم قوى سياسية تدعم الهجرة ويريد من جهة اخرى وقف الهجرة غير الشرعية.
مستقبل أوروبا
كان رئيس وزراء هنغاريا على حق تماماً، لأن قومية سالفيني تتعارض مع عولمة ماكرون فيما يتعلق بمستقبل أوروبا. وقبل سنة فقط بدا وكأن الرئيس الفرنسي المنتخب حديثاً سوف يرث دور مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل في توحيد القارة العجوز، كما بدا أيضاً أن خطوات الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد تشوه قضية الرقابة على المهاجرين في أوروبا بشكل تام.ولكن الناخبين لم يغفروا لقادتهم السياسيين فتح بوابات الهجرة عام 2015.وقد حصل سالفيني على زخم، كما أن الحكومة الائتلافية التي شكلها حزبه مع حركة الخمس نجوم، حصلت على ولاء من جانب أكثر من نصف المواطنين الايطاليين، وهو ما رفع نسبة دعم ذلك الحزب من 17 في المئة إلى 32 في المئة منذ فصل الربيع، وحوله الى أكثر أحزاب ايطاليا شعبية.صيف سيئ لماكرون
في غضون ذلك حصل ماكرون على فصل صيف سيئ، وقد بدأ بفضيحة شملت حارسه الشخصي الكسندر بينالا الذي يبدو أنه يريد توجيه عنف جسدي الى الأشخاص الذين لا يتفقون مع رئيسه، وتم التقاط صور له وهو يهاجم بشدة في عيد العمال احدى المحتجات وتوجيه ركلات الى محتج وهو ملقى على الأرض. وفي رده على الحملات التي استهدفت بينالا قال ماكرون إن حارسه الشخصي ليس حبيبه، وقد انتهى صيف الرئيس الفرنسي باستقالة دراماتيكية أعلنها على الاذاعة الوطنية وزير البيئة نيكولاس هيولوت الذي قال: «لا أريد أن أستمر في الكذب على نفسي»، ووصلت شعبية ماكرون، التي هبطت منذ أكثر من سنة، الى 34 في المئة.واللافت أن دونالد ترامب الذي فاز في انتخابات الرئاسة الأميركية في سنة 2016 وايمانويل ماكرون الذي أعقبه بعد سنة قد دفعا البعض من الناس الى الافتراض بأن كل ما يحتاج اليه المرء من أجل النجاح في عالم السياسة هو «الخدعة» والتظاهر بالأداء، وعلى العكس من ذلك فإن النجاح كسياسي يتطلب الكثير من اتقان الغموض. وتمكن خصوم ترامب من استخدام فهمهم – وجهله – بالإجراءات الحكومية لوضعه في حلقة استقصاء لن يتمكن من الإفلات منها في وقت قريب، وفي وقت متأخر من عمل سيلفيو برلسكوني رئيساً للوزراء في إيطاليا تمكن خصومه من عمل الشيء نفسه، كما يأمل أعداء سالفيني تكرار هذه اللعبة. وفي شهر أغسطس وبعد رفضه طوال عشرة أيام السماح بنزول المهاجرين من قارب إنقاذ كان يرسو في كاتانيا تحرك القضاء الايطالي الى توجيه الاتهام له بالاختطاف.المعروف أن سالفيني رجل سياسة استثنائي، أما ماكرون فليس كذلك، أو ليس بعد على الأقل. وتتطلب المشاركة السياسية تدريبات وافية على حسن التمييز والرؤية الثاقبة وهو جانب لم يسنح الوقت لماكرون لاكتسابه على الرغم من سرعته في التعلم. ويرى ماكرون أن سالفيني شخص يحاول دائماً التصرف بطريقة استفزازية من دون معرفة الدوافع وراء ذلك. وكانت أسوأ تعليقات سالفيني بعد أيام من انضمامه الى الحكومة في قوله ان الحفلة انتهت بالنسبة الى المهاجرين، وهذه طريقة مرعبة لوصف الكثير من الأشخاص الذين خاطروا بحياتهم في الصحارى والغرق في البحر الأبيض المتوسط ولكن ذلك في نظر الناخبين ألحق الضرر بمنتقصي قدر وقيمة سالفيني لأنه دفعهم الى النأي عن مهاجمة أي قيود على الهجرة.وفي وسع سالفيني التمييز بين المواقف المتباينة بينما الرئيس الفرنسي لا يزال في مرحلة التعلم، وكل قارب يظهر في الأفق الجنوبي يلقي بظلال سيئة على فكرة ماكرون حول التضامن الأوروبي.وكما أن الهجرة تولد الهجرة فإن الشعبوية تولد الشعبوية، وعندما تدخل الأحزاب الوطنية البرلمان فإن القضايا التي تطرحها تلك الأحزاب تغير سياق النقاش السياسي بشكل تام.ويتقن سالفيني التصرف باللغة، وقد تمكن من اعادة صياغة الجوانب الانسانية لتصبح اجرامية، وهو يصف بصورة زاهية المنظمات غير الحكومية التي تنقل المهاجرين عبر البحر بأنها مثل عصابات التهريب التي ترشدهم براً. ولم يعد المهاجر الإفريقي في حاجة الى استئجار قارب من أجل نقله الى أوروبا، وكل ما هو في حاجة اليه يقتصر على قارب يحمله الى سفينة انقاذ خيرية يمولها ملياردير ويمكن رؤيتها من أحد سواحل شمال إفريقيا.اتهام جورج سوروس
وقد سعى سالفيني الى مواجهة مع الملياردير جورج سوروس واتهمه باستخدام عمله الخيري من أجل «ملء ايطاليا وأوروبا بالمهاجرين»، وهذه الخطوة هي التي سعى اليها منذ زمن طويل أوربان، ولكن ما كانت تبدو قضية هامشية عندما اقتصرت على هنغاريا انطوت على أصداء أوسع عندما دخلت عالم السياسة في واحدة من الدول المؤسسة للاتحاد الأوروبي اليوم.ويهدف سالفيني الى كشف ماكرون على شكل رجل السياسة الذي يحبذ فتح الأبواب أمام الهجرة، ولا يوجد قائد أوروبي يود أن يعتبر متعاطفاً في هذا الصدد على الرغم من أن الكثيرين يسعون الى التمتع بصورة ودية من أجل تنفيذ سياسة متشددة. وعلى سبيل المثال فإن رئيس وزراء الدانمارك لارس لوكه راسموسن اقترح في الآونة الأخيرة قيام أوروبا بمهاجمة «أسباب» الهجرة.لكن ذلك لن ينجح، وسبب الموجة الحالية من الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط ليس الفقر أو أي شيء ضمن قدرة الاتحاد الأوروبي على تصحيحه، وهو في نهاية المطاف زيادة عدد السكان، وقد ازداد عدد سكان إفريقيا بحوالي ثلاثة أمثال منذ سنة 1980 وسوف يتضاعف هذا العدد من جديد بين اليوم وسنة 2050. وفيما سوف ينكمش عدد سكان أوروبا في الجيل المقبل فسوف يزداد هذا العدد في جنوب القارة حيث ستضيف 1.25 مليار نسمة من الشبان، كما أن هناك الملايين من المهاجرين المحتملين الذين يحتشدون في طرابلس وتونس وإسطنبول على الطرقات، وهم على استعداد لدخول أول دولة تشير الى الترحيب بهم.وسوف تعتمد كيفية ردة فعل أوروبا حيال هذا الانفجار السكاني على ما اذا كانت أوروبا تنظر إلى الهجرة على أنها احضار المزيد من الأيدي المساعدة أو المزيد من الأفواه لإطعامها. ويتحدث ماكرون عن هذه القضية بشكل لا يمكن القيام به في الولايات المتحدة أو بريطانيا. وخلال ثمانية أشهر سوف تظهر لنا الانتخابات البرلمانية التي سوف تجري في الاتحاد الأوروبي المسار الذي سوف تتبعه أوروبا. ● كريستوفر كالدويل