«حريم أعزكم الله»

"حريم أعزكم الله"... عنوان عنيف تحمله المجموعة القصصية الثالثة للكاتب اليمني محمد الغربي عمران، وقد سبقتها مجموعتان "الشراشف" و"الظل العاري"، وتلتها "ختان بلقيس" و"منارة سوداء"، وله أربع روايات أولها "مصحف أحمر"، ثم "ظلمة يائيل"، و"الثائر"، وآخر أعماله "مسامرة الموتى"، وإلى جانب كونه قاصاً وروائياً هو مدير لنادي القصة في المقه.

هذه ثاني مرة أقرأ فيها مجموعة "حريم أعزكم الله"، فقد قرأتها في عام 2001، ونسيت مضمونها بمرور السنوات، وأعدت قراءتها بعدما وجدتها في مكتبتي حين قمت بترتيبها، أثارني العنوان وحرضّني لإعادة اكتشاف مضمونها، خاصة أنه يسيء إلى المرأة كثيراً، لأنه بالضبط يشبه معنى جملة تُذكر حينما يأتي ذكر حمار أو كلب أو حمام أو نعال أو حذاء أمام السامع، فيقال مثلاً نعال، كرمك الله، أو كلب، كرمك الله، وهذه الجمل تذكر فقط في دول الخليج، وبالتالي المقصود من قول "حريم أعزكم الله" هو تطهير قيمة السامع وتنظيفها من نجس ذكر الحريم، أي تتساوى قيمة الحريم، أي النساء، مع النجس والحيوانات النجسة الأقل شأناً والنعال، وهذا قول يستعمل كثيراً عند الناس الأقل وعياً وتعليماً، المهم أن هذا العنوان لا يمت بأي صلة لمضمون القصص، ولا توجد قصة تندرج تحته، كما توقعت.

أما لماذا اختار محمد الغربي عمران هذا العنوان؛ فأظن أن الاختيار كان بقصد إثارة الانتباه وشد القارئ للمجموعة، التي لم تكن بحاجة إلى مثل هذا العنوان، لأنها قصص متميزة ساحرة وآسرة، وآتية من عوالم الغرابة والغموض الأسطوري الذي يتميز به اليمن، حكايات غرائبية عجائبية، لكن لا شيء غريب أو عجيب في اليمن الأسطوري، بلاد الدهشة والاندهاش التي يزيدها القات غموضاً وأسراراً وتوحشاً ووحشة، فالقصص تتنقل بين هذه العوالم المختلفة بجغرافيتها المتنوعة ما بين الجبال والوديان والسهول والسواحل.

طبيعة اليمن الغني بتنوعه الطبوغرافي وتراكم تراثه وتاريخه، قادرة على منح الكاتب قصصاً وحكايات لا نهاية لها، خاصة مع الكاتب العميق الالتقاط الثري بموهبته، وهذه قدرة محمد الغربي عمران على الغرف والصيد من كنوز الحكايات الملقاة على قارعة الطريق، فاليمن حالة خاصة لا تشبه أي بلد آخر، فمن ناحية الجمال لا أظن أن هناك طبيعة أي بلد عربي توازي جمال طبيعة اليمن، الشمال منه يشبه سويسرا، لكنه تنقصه النظافة، والجنوب نبتاته تشبه إسبانيا، وأيضاً من دون نظافة، أما التميز الأسطوري الخرافي فموجود بمدينة صنعاء، حين تعبر بوابتها فكأنك دخلت عوالم ألف ليلة وليلة.

هذا اليمن العجيب تكشفه قصص المجموعة التي صورت بالفعل الحكايات برموز مستوحاة من الواقع، ومتخفية بسحرية كي تنفيها منه، ولكنها هي الحقيقة لمن يعرف اليمن ويدرك تفاصيله.

من أجمل قصص المجموعة "رجل الذباب"، التي تصور رجلاً يهوى جمع الذباب بكل أشكاله وأنواعه المتعددة في اليمن، وقد اكتشف من خلال معايشته لها، أن في اليمن أكثر من 97 نوعاً من الذباب، منها 13 نوعاً يتميز بحجمه الكبير وألوانه الفريدة، و24 نوعاً يعيش على السواحل والمستنقعات، و18 نوعاً صغير الحجم يعيش في التهائم، وأنواع كثيرة تعيش في المنازل.

الرجل يسكن في بيت له ثلاث غرف؛ واحدة له والثانية للذباب، والثالثة جعلها مقبرة لذباباته الميتة، يخلع ملابسه ويصبغ جلده بسوائل لزجة كتدريبات يقوم بها مع الذباب.

بصراحة، مشاهد تدريباته فكرتها عبقرية في التصوير والكتابة، لا أعرف كيف خطرت على بال الكاتب هذه التدريبات والألعاب الغرائبية ذات الكوميديا السوداء، وهذا مشهد من التدريبات: "صبغ جلده بسوائل حمراء، فتح الباب بهدوء، آلاف الذبابات تهاجمه، تمتص السائل الأحمر، وفي حركة مسرحية، يحاول الهروب إلى الزاوية البعيدة، ثم الأخرى، يتعثّر، يسقط أرضاً، يصدر أصواتاً شبيهة بالفحيح، تزداد الغرفة صخباً، والذباب يهاجمه، يتلوى على الأرض والذباب يحاصره يلعق جسده".

ألعاب وأدوار مختلفة يؤديها مع الذباب، الذي يتوحش في النهاية ويأكله.

قصص المجموعة كلها تتميز بحدة الغرابة والفانتازيا التي هي ليست بخيال، لكنها رمزية عالية مستمدة من واقع الحال اليمني، مصبوغة بالكوميديا السوداء التي لا تعرف، هل تضحكك أم تُبكيك!

القارئ الذي لم يزر اليمن لن يستوعب رمزية حكايات المجموعة، وسيقرأها كواقعية سحرية في قصص مؤلف يمني، ولن يدرك المعاني العميقة المختبئة فيها، والتي أجاد محمد عمران بلورة لب المعنى منها.

ذاك اليمن الغامض المتقد جمره تحت رماده.