«طفل من حقول الكاكاو»
"طفل من حقول الكاكاو"... سيرة ذاتية لطفولة الكاتب المبدع "جورج أمادو"، الذي ولد سنة 1912 بإحدى مزارع الكاكاو بسرجيب، جنوب باهيا في البرازيل، التي لم أزرها في حياتي -على الرغم من أني زرت أميركا الشمالية، أي كندا والولايات المتحدة، تقريباً معظمها، وبزيارات متعددة- ولم أزر أي دولة من دول أميركا الجنوبية، ولا أدري لماذا ينتابني إحساس غامض تجاهها وكأنها آخر العالم! لذا فإنني كلما قرأت روايات آتية منها أشعر بانبهار، وكأنها آتية من أمكنة الغموض والظلمات.عندما قرأت سيرة طفولة آمادو، ومن قبلها تقريباً قرأت معظم روايات كتاب أميركا الجنوبية، فإنها كلها أكدت إحساسي بجموح وعنف هذه البلاد، حتى مع تطورها وتدجين الحضارة والحداثة لها، فمازالت طبيعتها تتفجر بالعنف والاقتتال.طفولة جورج أمادو نمت بهذه الأمكنة المتوحشة صعبة العيش بها، برغم أنه ليس من الطبقة المسحوقة، فوالده وأعمامه وأخواله كلهم من كولونيلات مزارع الكاكاو، لكن ما يصفه من حياته فيها ليس إلا واقعاً لرعب مخيف، وكما يقول "الموت صديق طفولتي، من بدايتها إلى نهايتها"، وهذا مقتطف يبينه: "طفولة شكلتها أراضي اغتصبت، ورجال مدججون دوما بالأسلحة، في عالم بدائي، حيث تسود الأوبئة والطاعون والأفاعي والدم والصلب، على امتدادات الطرقات. كان الصراع من أجل الخشب، ومن أجل أرض لا يملكها أحد، يمتد ويمتد، حتى نصب الكمائن، وحتى الصراعات السياسية والمواجهة بين رجال مسلحين في جنوب ولاية باهيا، كانوا يتاجرون بالحيوانات والسلاح وحياة الناس، وحدهم من يتوافرون على مناجل جيدة ورفوش، وكذا من يحسنون الرماية، كانوا يتقاضون أجورا مرتفعة ويحظون بعدد من الامتيازات، وكانت الصلبان تجوب سبل المنطقة، والجثث تساهم في سمنة الذئاب".
هذا الواقع المتوحش المرعب منح رواياته العمق والقيمة الأدبية، فكلما كانت حياة الكاتب مليئة بالمصاعب والتحديات الإنسانية، غاصت كتابته في معنى وجوهر وتفاصيل الحياة أكثر وأكثر، وانعكست بكتاباته وفلسفته وعمق نظرته لما حوله، وهذا ما وجدته عند معظم الكتاب العظام الذين مروا بتفاصيل حياة قاسية وصعبة. حياة جورج أمادو هي من تلك الحيوات العميقة، التي عجنتها وخبزتها التجارب القاسية الصعبة المريرة، ليس فقط الطبيعة العنيفة للبرازيل. ولكن التزامه بقضايا وطنه وهموم المواطنين زاد عمق تجربته الحياتية، وتجواله القسري من بلد إلى آخر ومن سجن إلى آخر، إذ سيعتقل 12 مرة وستحرق كتبه وتمنع، حتى نفى نفسه إلى الأرجنتين، وهذا ما قاله عن نفسه: "لقد ناضلت من أجل القضايا العادلة، قاومت الأفكار الجاهزة، وتجرأت على ممارسات مرفوضة، وجبت السبل المحظورة، كنت الضد، وكنت اللا، أهدرت نفسي، بكيت، ضحكت، تألمت، أحببت، وتسليت". رواياته عكست واقع الحياة في البرازيل، وصورت حياته وحياة من حوله، وشكلت جزءا من تجربته الذاتية، فأبطال رواياته هم معارفه وأقرباؤه والناس من حوله، خاصة عمه ألفارو أمادو، الذي كان يتمتع بجاذبية خاصة ومقامرا من الدرجة الأولى، داهية يؤمن بالدهاء، وكان له تأثير كبير على شخصية جورج أمادو الطفل، فكلها شخصيات أسطورية عاشت بواقع خرافي أسطوري، وإن كان حقيقياً جداً.فمن يتصور حياة طفل يعيش في عوالم الحانات وكواليسها، حيث يغامر الكولونيلات والتجار العرب بأموالهم وحياتهم بالبوكر، ويتعلم فرط الورق وقواعد الخداع، ودخول بيوت الهوى والسهرات مع الفتيات بالأزقة الضائعة، حيث كن يداعبنه بحنان ويقصصن عليه قصص وأغاني ما قبل النوم، وهذا مقتطف يبين تعاطفه مع النساء الضائعات، العطوفات، بقايا الآدمية: "ماذا كنت سأصبح لو لم أكن روائياً للبغايا والمتشردين؟ إذا كان في ما أكتبه مسحة من جمال فمصدره هؤلاء المحرومين، وتلك النساء اللائي يحملن علامة الحديد الأحمر، واللائي كن على حافة الهلاك في أقصى درجات الإهمال. في الأدب وفي الحياة أشعر بي دائما أبعد من القادة، ومن الأبطال، أقرب إلى أولئك الذين ترفضهم وتحاكمهم الأنظمة والمجتمعات. إن القادة والأبطال فارغون، بلداء، مستبدون، غير محبوبين وأشرار، يكذبون حين يدّعون أنهم يتكلمون باسم الشعب، لأن الراية التي يحملون هي راية الموت، تولد الإنسانية من الذين لا يملكون جاذبية خاصة، ومن الذين لا يملكون ذرة نفوذ".جورج أمادو عدو الأيديولوجيات، ويراها تخنق الفكر المبدع بالنظريات والمفاهيم الدوغمائية، وتعوق تقدم الإنسان والإنسانية؛ لذا كان يحلم بثورة دون أيديولوجية.