كان كل شيء هادئا. المساحة الخضراء التي أطل عليها من الشباك العريض في غرفة المعيشة تمتلئ بحياة الصبية والفتيات. لا نذير حتى الآن عن العاصفة التي ستضرب المدينة بعد ساعات. فجأة تبدأ الرياح تتحرك باضطراب، كأنما عصي الغضب تقودها يمنة ويسرة، دون تحديد جهة معينة. ليس ما يحدث هو عاصفة اعتدنا عليها في السنوات السابقة. الأشجار تقاوم عنف الريح التي تنوي اقتلاعها من جذورها. سمعت صوت انفجارين بالقرب من منازلنا، ثم غرق الحي في الظلام. سقطت أعمدة الكهرباء، واقتلع الإعصار بعض البيوت وأسقف البعض الآخر، تحطمت سيارات، وفقد أصحابها حياتهم. بدت الصور التي ينقلها الأصدقاء عن المدينة وكأننا في حالة حرب نخوضها مع إعصار لا سبيل لصده.كان الإعصار وحشا يلتهم كل ما ومن يقف في طريقه، ولحُسن حظنا لم نكن في عينه مباشرة، ومصابنا أخف بكثير من غيرنا. ما فقدناه هو الكهرباء والشبكة العنكبوتية. وتلك لم تكن آثارا سيئة، لكنها الحسنة الوحيدة لهذا الإعصار العنيف. لثلاثة أيام ونحن نجتمع في البيت الذي كان بالسابق يشبه الفندق للأبناء. يعودون من جامعاتهم إلى غرفهم، أو يجلسون يحتضنون أجهزتهم يتواصلون مع عوالمهم الخاصة.
كانت الحياة في النور غيرها بالظلام، الفردانية التي يعيشها الأفراد توحي بكثير من الوحشة، رغم هالة النور التي تحيط بها، لكننا في الظلام نعيش حالة اجتماعية يبدو أننا نفتقدها. بالنسبة لي هي حياة أعرفها وعشتها سنين طويلة بين أخشاب وصفيح الجهراء، لكنها تبدو متعة عابرة لأبناء النور. تأفف الأبناء بعض الوقت، ثم اضطروا للتأقلم مع هذا الظلام، أشعلوا شموعا وسُرجا، وأحضروا ألعابا تبدو بدائية بالنسبة لألعاب التكنولوجيا التي نشأوا عليها. هذه الألعاب احتاجت أن يكونوا جماعة لا فرادى. ما كان يبدو لهم مزعجا في بداية الأمر تحوَّل إلى متعة غريبة، تحوَّل الصمت الذي كانوا يمارسون فيه ألعابهم إلى ضجيج وإزعاج جميل. هذه الحالات التي نعتبرها غضبا بيئيا وسخطا إلهيا تتحوَّل إلى ألفة بين أشقاء بالكاد يعرفون بعضهم، وتقتصر لقاءاتهم بما يسمح به الوقت الذي لا يمنحهم فرصا للقاء. لم تكن تلك حالة مقتصرة على أسرة بعينها، بل على جميع الأسر المحيطة بهم. لقد سمحنا لتكنولوجيا النور أن تأخذ منا إنساننا البسيط، وتغرقنا في ظلام الوحدانية وحياة لا اجتماعية. وربما كنا نحتاج منذ زمن لهذا الإعصار، لكي ننتبه للإنسان الذي نفتقده. أدرك الآن لماذا يصر صُناع هذه الشبكة العنكبوتية على ألا يقع فيها أبناؤهم، ويمنعونهم من امتلاك الأجهزة وبرامجها التي تدر عليهم الملايين من أموال أطفال الآخرين. ربما لن تتكرر هذه الألفة التي نعيشها في ليالي هذا الإعصار، وعلينا أن نبتكر إعصارا بين فترة وأخرى نبحث فيه عن ذواتنا المفقودة.
توابل - ثقافات
إعصار
25-09-2018