رغم أن شطحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وخصوصا على منصة «تويتر»، باتت متكررة وغير مفاجئة، فإن تغريدته نهاية الأسبوع الماضي عن أسعار النفط ومنظمة أوبك يمكن أن تكون جرس إنذار للمعنيين بها.«نحمي دول الشرق الأوسط، ومن غيرنا لن يكونوا آمنين، ومع ذلك يواصلون دفع أسعار النفط لأعلى! سنتذكر ذلك»... هكذا غرّد ترامب في «تويتر» في مساعيه لحث «أوبك» على خفض الأسعار، ورغم أنها ليست المرة الأولى التي يبدي فيها الرئيس الأميركي امتعاضه مما يعتبره ارتفاعاً غير مبرر لأسعار النفط، فإنها الإشارة المباشرة الأولى لربط الحماية لبعض دول «أوبك»، والمعني بها دون شك دول الخليج النفطية، بمدى رضا الولايات المتحدة عن الأسعار.
ورغم أن ارتفاع أسعار النفط عالمياً مرتبط بشكل جوهري بالعقوبات الأميركية ضد إيران، المقرر نفاذها مطلع نوفمبر المقبل، فإن ترامب حمّل «أوبك» ودولها النفطية الخليجية مسؤولية ارتفاع الأسعار، ودعاها إلى خفضها، وإلا ربط هذا الأمر بملفات الحماية والأمن!
ارتهان الأمن والنفط
والعلة ليست في تغريدات ترامب وفلتات لسانه، أو سياسات غيره من رؤساء الولايات المتحدة ممن يطبقون ما يقوله ترامب دون الإفصاح به علنا، بل في هشاشة الوضع الأمني والاقتصادي لدول الخليج، من حيث ارتهان بقائها ووجودها وأمانها بمدى رضا الولايات المتحدة عنها أو عن أنظمتها، وهي حالة تكاد لا تكون موجودة عالمياً بهذا القدر الواضح والعلني والمباشر إلا مع دول الخليج العربية، ولا يمكن مقارنتها حتى مع تدخلات واشنطن بسياسات أميركا الجنوبية أو شرق آسيا، ولا حتى بتغريداته وتصريحاته بشأن الحرب التجارية مع الصين أو خلافات التجارة الحرة «نافتا» مع كندا والمكسيك، فهي خلافات مصالح، لا تهديد بالأمن أو الوجود، وهو ما قد يرجّح آراء متشائمة بشأن جغرافية المنطقة بتقسيم دولها أو ضم بعض منها إلى دول أخرى.وإذا كان الارتباط بالنفط بالنسبة إلى دول الخليج تكتنفه مخاطر اقتصادية عالية، فإن الارتباط الأمني أو «ارتباط الوجود» المُبالغ فيه مع الخارج، سواء كان قطباً واحداً أو عدة أقطاب، لا يقل خطورة عنه، إذ إن مسؤولية أي دولة في أي إقليم أن تعتمد على نفسها، وتجعل مصالحها وتشابكها هما ما يحميانها ويحميان وجودها وكيانها.تصدّع خليجي
فمنطقة الخليج اليوم تعاني تصدعاً داخلياً ظاهراً يتمثل فيما يعرف بـ «أزمة قطر»، إلى جانب خلافات ثنائية كامنة، لدرجة أنه لا توجد دولة خليجية بمعزل عن وجود خلاف واحد على الأقل مع دولة خليجية أخرى، فضلاً عن خلافات أكبر وأسخن على مستوى الإقليم في العلاقة بين مجلس التعاون الخليجي وإيران، مع توجسات ومخاوف مما يمكن أن تفرزه الأحداث والتوترات في العراق على المنطقة، وهذا كله يستدعي من حكومات المنطقة مجتمعة سياسات مختلفة كلياً عن الحالية، يتحمل مسؤولية تنفيذها مختلف أطراف الإقليم، مهما كان تعقّد أو تشابك الملفات بينها، أو حساسيتها، وهذا ليس فقط بهدف خفض مستوى الارتهان في الوجود والأمان للولايات المتحدة، ولكن أيضا للخروج من ضيق الخلافات السياسية والأمنية إلى أفق التعاون الاقتصادي والتنموي.دول المنطقة
ففي عالم اليوم، لا قيمة للتكتلات القائمة على أسس أمنية أو سياسية، فكل التكتلات الناجحة اقتصادية في جوهرها؛ كالاتحاد الأوروبي ومجموعة آسيان وتجمع «بريكس»، وهذا ما غاب عن مجلس التعاون الخليجي، وأيضا عن شريكيه في الإقليم إيران والعراق، إذ انشغلت طهران سنوات طويلة بضخ مليارات الدولارات والكثير من الجهد في معارك ومغامرات خارج الحدود، وإخافة الجيران، في حين استنزف العراق ثرواته وتنميته وأسس الدولة في عهد حزب البعث، حتى تغيّر النظام، لكنه بات أكثر فساداً من معظم أنظمة الحكم في العالم، وفساده لا يمكن مقارنته عالمياً.فدول المنطقة، أي الخليج مع إيران والعراق، تشكل ما يتجاوز 44 في المئة من إجمالي الاحتياطي العالمي من النفط الخام، وتمتلك صناديق استثمار سيادية تتجاوز قيمتها تريليوني دولار، «معظمها لدول مجلس التعاون الخليجي»، فضلا عن أن المنطقة تمثّل حلقة الوصل بين آسيا وأوروبا في مجال التجارة ونقل البضائع، لكنها كلها فرص ضائعة مادام المشروع لم يكن اقتصادياً يستهدف رخاء مواطني ودول المنطقة.مشروع وإدارة
لكن من المهم القول إنه أيضا لا قيمة للمشروع الاقتصادي ما لم يتضمن أسساً للإدارة السليمة التي تستوجب تغييراً جذرياً في جوهر ونظم الإدارة والحكم من جهة رفع مستوى المشاركة الشعبية فيها، والخروج من فردية القرار إلى مؤسسيته، كي نضمن أن اتخاذ القرارات يكون وفقاً لمصالح دول المنطقة وشعوبها، فمشاريع ورؤى المستقبل المعلنة في أكثر من دولة خليجية تتطلب حصافة أكبر في الفرضيات، مثل مراعاة التباطؤ أو النمو المتوقع في الاقتصاد العالمي، ووضع مصدات تمتص أي تعثّر اقتصادي، فضلاً عن تحاشي مخاطر التوسع في الاقتراض على المديين القصير والمتوسط لتمويل مشاريع طويلة الأجل، إلى جانب عدم المبالغة في خلط الهويات الاقتصادية والتجارية، وأن يكون الاستثمار الأجنبي وسيلة لجذب التكنولوجيا وإيرادات الضريبة وفرص العمل، فضلا عن فائدته الأمنية، وليس غاية في حد ذاته، إضافة إلى معالجة اختلالات التركيبة السكانية والاعتماد على النفط.تسلّح قياسي
من أوجه الكلفة الاقتصادية للارتهان والاعتماد على الآخرين في الحفاظ على أمن ووجود بعض دول المنطقة، يكفي أن نعلم أن دول الخليج رفعت خلال السنوات الماضية، وخصوصاً بعد «أزمة قطر»، إنفاقها العسكري إلى مستوى فاق حسب المعلومات المتاحة 40 مليار دولار، معظمها مع الولايات المتحدة في منطقة تعاني مصاعب كبيرة؛ ليس في الثروة، بل في جودة إنفاقها وآليات صرفها ومدى انعكاسها على واقع الاقتصاد والتنمية، مع أن نصف هذه المبالغ يمكن أن يخلق منظومة مصالح اقتصادية مع الشركات العالمية، ويحقق الفائدة الأمنية والاقتصادية بشكل أكثر حصافة في الإنفاق.تغريدات ترامب، مهما بلغت في شطحاتها، إلا أنها تكشف جانباً مهماً من الحقيقة، وهي أن التحالف مع الآخرين يختلف عن الاعتماد عليهم، وأن هذا الاعتماد المطلق سيمس حتماً - جهراً أو سراً - مصالحهم المباشرة وارتباطاتها بالأسواق، بل أمنهم ووجودهم... فإن تجاوزت «أوبك» هذه المرة تهديدات ترامب، فإن هناك شكّا في مقاومة إجراءاته أو تنفيذ تهديداته، وخصوصاً مع الأوضاع الجيوسياسية المضطربة في المنطقة، ومع الاعتراف بأن ظروف منطقتنا لا تشي بكثير من التفاؤل في ملف الاعتماد على الآخرين، فإنه لا خيار لدينا إلا بإصلاح الإدارة وتحديد المستهدفات الاقتصادية السليمة، بلا خداع للنفس أو ارتهان للغير.