أخبرني عميد الجامعة أن الطلاب القادمين من دونيتسك، حين وصلوا إلى لفيف أول مرة، راحوا يتجولون في مجموعات متحدثين بالروسية بصوت عالٍ، لم يريدوا التكلم بالأوكرانية ولم يرغبوا في الاندماج. تقع لفيف غرب أوكرانيا قرب الحدود البولندية، أما دونيتسك التي تبعد مئات الكيلومترات إلى الشرق، فتخضع لاحتلال "انفصاليين" تدعمهم روسيا منذ الغزو الروسي عام 2014. إذاً كان الطلاب الجدد "مهجرين داخل بلدهم": لاجئين في وطنهم. يشكّل اندماج لاجئي دونيتسك في المدارس والمجتمعات في المناطق الوسطى والغربية من البلد جزءاً أيضاً من قصة أشمل: اندماج الحرب في وعي الأوكرانيين، صحيح أن الحرب الروسية-الأوكرانية ما عادت تتصدر عناوين الأخبار، إلا أنها ما زالت مستمرة، فقد قُتل أحد القادة الانفصاليين المدعومين من روسيا في تفجير في شهر أغسطس، وتشهد معظم الأيام مناوشات، وقلما يمر أسبوع من دون موت جنود من كلا الطرفين، فقد وقع أكثر من 10 آلاف ضحية منذ عام 2014، حتى إن بعض كنائس لفيف الباروكية الطراز يضم أماكن صلاة صغيرة تحمل أسماء الضحايا. يبدّل هذا الصراع المتواصل ببطء المواقف هنا، مما يؤدي إلى ما يدعوه تقريرٌ ثاقب النظر صادر عن المجلس الأطلسي "طلاق القرن الجيو-سياسي": انفصال بلدين شكّلا جزءاً من إمبراطورية واحدة طوال قرون، فقد تراجعت التجارة بين أوكرانيا وروسيا لتحل محلها في أوكرانيا التجارة مع أوروبا وسائر دول العالم. وتُعتبر الهند لا روسيا الشاري الأكبر للمنتجات الغذائية الأوكرانية، كذلك تموت الروابط الدينية القديمة بين البلدين، فقد انفصلت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية اليوم رسمياً عن موسكو، حتى العلاقات الشخصية تتراجع: بما أن السفر صار محدوداً اليوم بسبب الحظر المفروض على الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين، وانخفض احتمال أن يعيش الأوكرانيون ويعملون في روسيا، بل صاروا يقصدون بولندا بدلاً منها.بالإضافة إلى ذلك، بدأ التأثير الثقافي الروسي الذي كان قوياً جداً في الماضي يختفي، وذلك بفضل القرارات الرسمية، ويُطلب من المحطات الإذاعية الأوكرانية (على غرار المحطات الفرنسية والكندية) بث نسبة معينة من الأغاني الأوكرانية المنشأ، كذلك تُحظَر محطات تلفزيونية كثيرة تابعة للدولة الروسية لأنها تعرض دعاية حربية، ويرغب البعض في الذهاب إلى أبعد من ذلك: أعلن مشرّع محلي في لفيف أخيراً بتهور أنه يرغب في حظر كل الكتب والموسيقى الروسية، علماً أن هذا تدبير لا يستطيع أحد في هذا البلد الناطق بلغتين منذ زمن تطبيقه، إذ تُباع الكتب الروسية بوفرة في مختلف المتاجر، في الأكشاك على الطرقات، وفي منتدى الكتاب السنوي الذي أقيم أخيراً في المدينة، وعندما سألت ناشرتي باللغة الأوكرانية عن رأيها بهذا الحظر، ردت علي برسالة نصية من كلمة واحدة: "جنون". تشكّل هذه التدابير المتحيزة السخيفة انعكاساً للاستياء من حرب لا تنتهي، ولا طائل في هذه التدابير لأن تبدلاً جذرياً أكثر عمقاً بدأ يحدث، ونتيجة هذه الحرب والغضب ممن شنوها يقرر الأوكرانيون من تلقاء ذاتهم التحدث بالأوكرانية، ويرتفع عدد مَن يؤكدون أنهم يقومون بذلك كل سنة، ونتيجة هذه الحرب تزداد مناطق مختلفة في هذا البلد الشاسع تقارباً أكثر من أي وقت مضى.
كذلك يشتكي كثيرون من أن الحرب تمنح السياسيين الأوكرانيين عذراً لعدم إنجاز مسائل مهمة ولعدم تطبيق الإصلاحات القانونية والاقتصادية الجذرية التي يحتاج إليها البلد، ولكن نتيجة هذه الحرب، تنمو أعداد الأوكرانيين الذين يعتبرون أنفسهم "أوروبيين" في خطوة معارضة لروسيا، كذلك أصبح عدد أكبر من الأوكرانيين يفهمون أن هذا "الميل الأوروبي" يعني أن عليهم أن يرفعوا الصوت وأن يكون أكثر تنظيماً في رغبتهم في التغيير.المفارقة أن الغزو الروسي، الذي هدف بادئ الأمر إلى معاقبة حكومة أوكرانيا الميالة إلى الغرب، دفع هذا البلد في اتجاه مختلف تماماً، كذلك هذا الغزو يذكّر بأن مواهب الرئيس الروسي بوتين الاستراتيجية المفترضة محدودة جداً، فقد حوّل تدخله في أوكرانيا من بلد مجاور صديق إلى عدو، كذلك أقنعت جهوده لتوحيد "الشعوب الناطقة بالروسية" في كتلة أوراسية الآلاف بالكف عن التحدث بالروسية، ولا شك أن تدخله في الانتخابات الأميركية رفع جنون الارتياب من روسيا في الولايات المتحدة ومعارضة روسيا إلى مستويات فاقت ما شهدناه خلال نصف قرن. إذاً، تشكّل أوكرانيا مذكراً ممتازاً بأن العنف قد يقود إلى عواقب غير متوقعة وأن الانتصار القصير الأمد قد يؤدي إلى هزيمة على الأمد الطويل.* «آن أبلبوم*»
مقالات
غزو بوتين يؤدي إلى رفض شعب أوكرانيا كل ما هو روسي
30-09-2018