كلما أغلقت صحيفة أبوابها انقبض قلبي، وكثيرون مثلي في أوطان لم تعد قادرة على استيعاب أشباه الإعلاميين والصحف والمجلات الهزيلة التي تغيرت كذلك بفعل أشكال من الرقابة المباشرة أو غير المباشرة. بالأمس كانت الصفحة الأولى لصحيفة الأخبار اللبنانية شبيهة "بورقة النعوة" أو إعلان تعزية لم يكن ينقصه سوى الخط الأسود في رأس الصفحة، وهذه المرة كان الخبر أكثر إيلاما أو ربما لأن أعداد الشواهد في مقابر الصحف العربية قد زاد، كان غلاف الأخبار موجعاً حتى البكاء، فدار الصياد العريقة ستغلق أبوابها، وتنهي بذلك حقبة من تاريخ عريق في الإعلام سواء اتفقنا أم اختلفنا مع توجهات كل صحيفة أو جريدة أو مجلة، فجيل من الصحافيين اللبنانيين والعرب تربى هناك وكبر، ومنها انتقل ليشكل مرحلة كاملة من تاريخ هذه المنطقة، حيث ازدهرت فيها الصحافة ولمعت فيها كثير من الأسماء الصحافية التي لا يزال بعضها يعيش معنا، ويشكل إغلاق دار الصياد بالنسبة إلى هذه الفئة من الصحافيين المخضرمين أو الصحافيين الحقيقيين الفصل الأخير من مساءات طويلة وسلسلة من التحقيقات والأخبار... صحافيون انتقلوا ليتابعوا الأحداث حتى لا يتصور بعض الصغار أن المراسلين الحربيين بدؤوا معهم هم فقط!
عندما أغلقت "السفير" أبوابها قبل فترة ليست بعيدة كثرت التعازي وراح الكثيرون يبحثون عن بدائل، إلا أن تعويض تلك الصحف أصبح صعباً جداً في حين تعدّ المساحات المتاحة لمعرفة حتى أبسط الأخبار وأكثرها تفاهة ضرباً من المستحيل إلا للباحثين والصابرين على تردي وضع الإعلام العربي بشكل عام لا اللبناني فقط. وعندما دار الحديث بأن صحيفة "الحياة" هي الأخرى ستغلق مكاتبها في لندن ثم بيروت، وتنهي طبعاتها إلا المتبقي منها في الرياض ودبي، احتار كثيرون في البحث عن الأسباب، فهل هو التمويل فقط أم أن هناك محاولة لتضييق المساحات حتى يصاب القارئ العربي بالضجر، ويبتعد أكثر عن القراءه وهو الأقل في هذا المجال بين شعوب العالم؟! ففي حين كانت قراءة الصحف هي ما تبقى من أشكال القراءة إلا لقلة قليلة، رحلت هذه الأخرى، وأصبح العربي يلتهي بـ"الإنستغرام" و"الواتساب"، إما لنشر فكر الكراهية للآخر ونشر الأكاذيب التي مع انتشارها تصبح حقيقة، أو ليستمع لأحاديث عن آخر صيحات الموضة أو الأكلات والمطاعم والمقاهي، وفي أحسن الأحوال يقوم أحدهم بوضع النصائح عن كيف أن حليب الإبل إن لم يكن بولها يشفي من أمراض عدة، فيعاد إرسال تلك الرسالة من جاهل لتصبح المعلومة وكأنها قادمة من باحث في الطب والأمراض!! كثرت الشهود على قبور إعلامنا، ولم يتبقَّ إلا القليل من الصحف، وهي في مجملها موجهة وتابعة سياسياً لخطوط متعددة، حتى تذكرت حديث ذاك الصديق الصحافي العريق عندما جاء ليهنئ بإطلاق صحيفة الوقت البحرينية كصحيفة مستقلة، فقال هل تصدقون أن هناك صحيفة مستقلة في بلدنا، إما أن تكون سنية أو شيعية، وإلا فلها الموت؟ وهكذا ماتت سريعا وهي لا تزال شابة فتية ووضعت على قبرها الزهور وبعض الدمع والأسف. كثرت الشواهد في المقابر وبقي السؤال الحائر: لماذا نستمر في تدريس الإعلام كتخصص في جامعاتنا في حين أجيال من الإعلاميين والصحافيين لا يملكون سوى الجلوس عند حافة المقاهي يحتسون الشاي والقهوة، ويعيدون رسم الذكريات الجميلة لأزمان كانت، وصحف وبرامج تلفزيونية ومحطات فتحت أبوابها لتتصارع الأفكار دون أن تدخل في حروب قاتلة؟ فالصحافيون والصحافيات العاطلون والعاطلات أكثر من أعداد الداخلين الجدد إلى كليات الإعلام والصحافة في جامعاتنا من المغرب حتى عمان، وتبقى مشاهد شواهد القبور أمام الجميع يمرون أمامها وبالقرب منها ثم يعودون للعيش في حلم لم يكتمل، وربما لن يكتمل، والمساحات تضيق على الرأي ليس في الإعلام والصحافة فقط، إنما حتى في كل المجالات الأخرى، فأين هي الجمعيات المستقلة التي لا تنتمي إلى طرف أو رأي أو حزب أو عائلة أو سلطة؟ وأين هم البرلمانيون المستقلون القادرون على طرح الأسئلة الصعبة والحرجة عن ميزانيات تهدر حتى آخر قطرة عرق من متقاعد؟! فماذا بعد؟ كثرت مقابر الحريات حتى أصبحت مدننا ما هي إلا مجموعة من المقابر وشواهد كالمومياءات تعيد التذكير بتاريخ مضى، في حين نعرف جميعا أن أمة تعيش على ماضيها العتيد فقط لا مستقبل لها!!* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية
مقالات
شواهد على قبور الصحف
01-10-2018