لقد انتقد رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد خلال زيارة قام بها أخيرا للصين استخدام البلد المضيف لمشاريع البنية التحتية الكبرى– والقروض التي يصعب سدادها- من أجل فرض نفوذها على الدول الأصغر، وفي حين تتميز تحذيرات مهاتير في بكين ضد "النسخة الجديدة من الاستعمار" بشجاعتها، فإنها تعكس مقاومة على نطاق أوسع لتجارة الصين الانتهازية وممارساتها المتعلقة بالاستثمار والإقراض.منذ سنة 2013 وتحت مظلة "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، عملت الصين على تمويل وتنفيذ مشاريع بنية تحتية ضخمة في بلدان حول العالم من أجل المساعدة في جعل المصالح الصينية تتناغم مع مصالح تلك الدول، واكتساب موطئ قدم سياسي لها في مواقع استراتيجية وتصدير فائضها الصناعي. إن الصين تبقي عملية المناقصات لمشاريع مبادرة الحزام والطريق مغلقة وغامضة، وهذا يمكنها من المبالغة في قيمتها بشكل كبير في الكثير من الأحيان؛ مما يترك البلدان تعاني لأجل سداد ديونها.
عندما تقع البلدان في فخ الديون الصينية، فإنها قد تجد نفسها مضطرة إلى صفقات أسوأ من أجل تعويض دائنها بسبب عدم القدرة على السداد، ومن الجدير بالذكر أن الصين أجبرت سريلانكا في ديسمبر الماضي على نقل ملكية ميناء هامبانتوتا الاستراتيجي الذي بنته الصين إلى الصين بموجب عقد تأجير لمدة 99 عاما على الطريقة الاستعمارية، لأنه لم يعد بإمكان سريلانكا الاستمرار في سداد ديونها.إن تجربة سريلانكا كانت بمثابة جرس إنذار لدول أخرى لديها ديون ضخمة مستحقة للصين، وبسبب خوف تلك البلدان من خسارة أصولها الاستراتيجية كذلك فهي تحاول الآن إلغاء أو تقليص صفقاتها أو إعادة التفاوض بشأنها، وإن مهاتير الذي مهد الطريق في السابق للاستثمار الصيني في ماليزيا أنهى زيارته لبكين بإلغاء مشاريع صينية بقيمة 23 مليار دولار أميركي تقريبا.وهناك بلدان أخرى مثل بنغلاديش وهنغاريا وتنزانيا ألغت أو قلصت أيضاً مشاريع مبادرة الحزام والطريق، واستخدمت مانيمار التي كانت تأمل الحصول على البنية التحتية التي تحتاج إليها بدون الوقوع في فخ الدين الصيني التهديد بالإلغاء من أجل التفاوض على تخفيض تكلفة ميناء كياوكبيو المزمع إنشاؤه وذلك من 7.3 مليارات دولار أميركي إلى 1.3 مليار دولار أميركي.وحتى أوثق حلفاء الصين يشعرون بالقلق الآن من مبادرة الحزام والطريق، ففي باكستان التي عملت منذ فترة طويلة مع الصين من أجل احتواء الهند، والتي تعتبر أكبر دولة تتلقى تمويل مبادرة الحزام والطريق، سعت الحكومة الجديدة المدعومة من العسكر إلى مراجعة أو إعادة التفاوض على مشروعات رداً على تفاقم أزمة الدين، وفي كمبوديا، وهي من كبرى الدول المتلقية للقروض الصينية، فإن المخاوف من أن تصبح فعليا مستعمرة صينية تتصاعد.إن ردة الفعل السلبية تجاه الصين موجودة في أماكن أخرى كذلك، فالإجتماع الأخير للمنتدى السنوي لجزر المحيط الهادئ كان الأكثر إثارة للجدل في تاريخه، فجعلت السياسات الصينية في المنطقة بالإضافة إلى تصرفات رئيس الوفد الصيني في الفعالية نفسها رئيس دولة نارو وهي أصغر جمهورية في العالم– 11 ألف نسمة فقط– يدين الوجود الصيني "المتعجرف" في جنوب المحيط الهادئ، وأضاف أن الصين لا تستطيع "أن تملي علينا الأمور".عندما يتعلق الأمر بالتجارة فإن الحرب التجارية المتصاعدة مع الصين التي شنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب تهمين على العناوين الرئيسة للأخبار، ولكن ترامب ليس هو الشخص الوحيد الذي ينتقد الصين، فسياسات الصين التي تمتد من دعم الصادرات والعوائق غير المرتبطة بالرسوم الجمركية إلى قرصنة الملكية الفكرية وتطويع السوق المحلي لمصلحة الشركات الصنية تعني أن الصين تمثل، وحسب كلمات غراهام أليسون من جامعة هارفارد، "أكبر اقتصاد رئيسي من حيث الحمائية والانتهازية التجارية والاستغلال في العالم".فالصين بسبب وضعها كأكبر مصدر للبضائع في العالم هي أكبر شريك تجاري للعديد من البلدان، واستخدمت نفوذها في هذا الخصوص من أجل استخدام التجارة لمعاقبة أولئك الذين يرفضون الخضوع لسياساتها، بما في ذلك فرض حظر للاستيراد على بضائع محددة، ووقف الصادرات الاستراتيجية (مثل المعادن الأرضية النادرة) ووقف السياحة من الصين، وتشجيع المستهلك المحلي على المقاطعة أو الاحتجاجات ضد الشركات الأجنبية.إن الصين في واقع الأمر أصبحت قوية وغنية بسبب انتهاكها قواعد التجارة العالمية، لكن الذي سيحصل الآن أن أفعالها سترتد عليها، حيث إن هناك أعداداً متزايدة من البلدان تفرض رسوماً لمكافحة الإغراق أو رسوما عقابية على البضائع الصينية، وفي حين تشعر البلدان بالقلق من محاولة الصين إخضاعها من خلال إغرائها للسقوط في فخ الدين، فإن الأمر لم يعد سهلاً بالنسبة إلى مبادرة الحزام والطريق.كما أن الاتحاد الأوروبي تقدم، إلى جانب رسوم ترامب، باحتجاج لدى منظمة التجارة العالمية على الممارسات الصينية من أجل نقل التقنية بالقوة، وذلك من خلال فرض ذلك كشرط للوصول للأسواق. إن دعم الصادرات الصينية وغيرها من الممارسات التي تشوه التجارة سيواجه مقاومة عالمية أكبر، وطبقا لقواعد منظمة التجارة العالمية فإن بإمكان البلدان فرض رسوم جمركية على البضائع المدعومة المستوردة والتي تضر بالصناعات المحلية.وإن الرئيس الصيني تشي جين بينغ يجد نفسه الآن لا يدافع عن مبادرة الحزام والطريق، وهي أهم مبادرة له في مجال السياسة الخارجية فحسب، بل أيضا في مواجهة النقد المحلي مهما كان خافتا بسبب استعراض الصين لطموحاتها العالمية، والذي أدى إلى ردة الفعل السلبية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية. لقد تخلى تشي عن واحدة من أهم تعليمات رجل الصين القوي السابق دينغ كيساو بينغ وهي "اخفِ قوتك وانتظر حتى يأتي وقتك"، وعوضا عن ذلك اختار تشي أن يتبنى وبدون خجل سياسة عدائية جعلت الكثيرين يتساءلون ما إذا كانت الصين تبرز كنوع جديد من القوى الإمبريالية.لقد منحت التجارة العالمية للصين فوائد كبيرة، مما مكنها من أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد بالعالم مع انتشال مئات الملايين من البشر من براثن الفقر، ولا تستطيع الصين تحمل خسارة تلك الفوائد بسبب ردة الفعل السلبية على مستوى العالم من ممارستها التجارية والاستثمارية غير العادلة، وإن اعتمادها على الفائض التجاري واحتياطيات النقد الأجنبي الضخمة لتمويل التوسع في إيجاد موطئ قدم لها على مستوى العالم يجعلها أكثر ضعفا في مواجهة ردة الفعل السلبية الحالية. وفي واقع الأمر حتى لو غيرت الصين من استراتيجيتها وأصبحت تلتزم بالقواعد الدولية فإن فائضها التجاري واحتياطياتها من النقد الأجنبي ستتأثر، وباختصار وبغض النظر عن الطريق الذي ستختاره فإن شعور الصين بالأفضلية ربما سينتهي قريباً.* براهما تشيلاني* أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات ومقره نيودلهي، وهو زميل في أكاديمية روبرت بوش في برلين، ومؤلف تسعة كتب بما في ذلك كتاب "الطاغوت الآسيوي"، وكتاب "المياه: أرض المعركة الجديد في آسيا"، وكتاب "المياه والسلام والحرب: مواجهة أزمة المياه العالمية".«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
ردة الفعل السلبية تجاه الصين
01-10-2018