حضور إسماعيل وتوغلات ابتهال
كنت قد كتبت عن أمسية جمعتنا للاحتفاء برواية إسماعيل فهد إسماعيل الأخيرة "صندوق أسود آخر"، قبل رحيله، لتكتمل صورة ما قبل الرحيل وما بعده. فكان هذا هو النص دون تغيير:"في تلك الأمسية التي خصصها الملتقى الثقافي، استثارتني فكرة كتابة إسماعيل فهد إسماعيل جزءاً ثانياً لروايته "في حضرة العنقاء والخل الوفي"، التي دخل فيها أبوفهد للمرة الثانية محطة غائرة كموضوع البدون... لماذا جزء ثانٍ؟ أجاب: لا أعلم، استهواني الموضوع، أو لبسني ولبسته".بدورها، قدمت د. ابتهال الخطيب أطروحة نقدية في الرواية، أبدعت واستفزت إسماعيل فكرياً. لم تتحفز كعادتها، عندما يذكر موضوع "البدون"، بل ارتكزت على أداء أكاديمي رصين، ففتحت الشهية لمزيد من العمق في الرؤية، واستثارة للحاضرين، الذين اعتادوا المباشرة في الطرح، هذه المرة كانت مختلفة، ربما الدم الأكاديمي البارد، الذي نتقنه في مثل هذه المحطات.
أبدى إسماعيل إعجاباً بما طرحته ابتهال، "فاجأتني بقراءتها للرواية واكتشافها لقضايا أكثر مما توقعت أو قصدت". في الكثير من الأحوال، هناك من يكتب وهناك من يكذب، والكاتب الصادق ينسى صدقه، لأنه لا يتصنعه، فهو جزء من ممارسته الطبيعية وسلوكه الاعتيادي، أما الكاتب المتصنع، "فأمره أمر"، حسب لميعة عباس عمارة، وهو يدرك جيداً أين كذب. إسماعيل هو كاتب صادق، لا يدرك صدقه، ولا يتصنعه، الفكرة تجرّك أحياناً إلى محطات غير معلومة، حتى لك ككاتب، ربما اتضح ذلك في فقرات "حُذف بمعرفة الرقيب".الأجواء كانت حميمية، أكثر منها أدبية أو فنية، والحضور كان يعاني حبًّا معلناً لإسماعيل، فاق الظروف العادية، عدد من الشباب المبدعين عبّروا عن ذلك الحب صراحة ومن دون مواربة، وبحشرجة وبدموع أو شبه دموع. من جانبي، كنت أرى إسماعيل جميلاً، ومازلت، يذكرك بما نسيت أحياناً، وينسيك ويسرح بك حيث لا تدري أحياناً أخرى.إبان الغزو كان يتعامل مع ذلك الواقع البائس وكأنه يكتب رواية، لم أكن أعلم ذلك، على الرغم من لقاءاتنا المتكررة في ظروف بالغة الخطورة، "الحذر ضروري، والمسؤولية الملقاة على عاتقنا كبيرة".كان يسجل كل صغيرة وكبيرة لكل حدث، ولكل شخص. علمت ذلك لاحقاً، لا أظن أن أحداً منا فكّر في ذلك، ولكن هذا هو إسماعيل لا غيره. وبعد التحرير اتصل بي ذات مرة من خارج الكويت، حيث قضى سنوات يحرث أوراق ويوميات سجّلها، ليحدثني عن مشروعه العظيم عن الغزو. هي رواية تسجيلية أو "سباعية" بعنوان لافت "إحداثيات زمن العزلة"، لتكون سفراً جامعاً لتجربتنا خلال الغزو، بلحظاته، بتفاصيله التي عايشناها معاً بدقة وروح إسماعيل المتحركة.أمسية زادها جمالاً الحضور الملتزم والمحب لفن إسماعيل، بداية طيبة للملتقى الثقافي، وخالص الشكر لطالب الرفاعي وعائلته الكريمة.تمت الأمسية يوم الأحد ٢٣ سبتمبر، وبعد أقل من يومين، جاءنا الخبر الصادم برحيل إسماعيل، وكأنه قد خطط للرحيل، وكأنه قد نسج نهاية الرواية عن "البدون"، بعذاباتهم الظاهرة والمستترة، وكأنها كانت أمسية لعرس الرحيل، وسط الأصدقاء والمحبين. ومع أن الموت حق، ولا رادّ لقضاء الله، فإنني، لأمر ما، لا أشعر بأن إسماعيل قد رحل عنا، فحضوره في الذهن كما حضوره في المشاعر، والحضور في الذهن ربما أكثر تركيزاً وعمقاً.