كانت البصرة في العراق "بندقية الشرق"، مدينة جميلة مليئة بالأقنية المائية قرب الخليج العربي، ولكن في السابع من سبتمبر اجتاحتها تظاهرات غاضبة تحوّل بعضها إلى عنيف وأدى إلى مقتل نحو 12 شخصاً قبل أن يحل في هذه المدينة هدوء حذر بعد يومين. تذكر صحيفة وول ستريت جورنال أن: "الولايات المتحدة وإيران تدعمان مجموعات سياسية عراقية متنافسة في معركة عالية المخاطر، الهدف منها تأليف حكومة بعدما أخفقت انتخابات شهر مايو في تقديم فائز واضح"، وتؤكد التظاهرات في البصرة أن شعب العراق يرفض تدخل كلتا الأمتين في شؤونه.
قد تشكّل الاضطرابات في البصرة انتفاضةً نظراً إلى ظروف العيش التي يواجهها السكان المحليون، ولكن يجب أن نستمد منها العبر أيضاً، فهذا ما ولّده في العراق تغيير النظام، و15 سنة من التدخل، والاحتلال، وعملية إعادة البناء، وهذا ما اشترته تريليونات من الدولارات اقتُرضت وأُنفقت وعشرات الآلاف من الأرواح الأميركية والعراقية أُزهقت.ولكن ما تظاهرات البصرة سوى لحظة واحدة من الاضطرابات السياسية المتواصلة في العراق، وما تحمله من مخاطر أمنية ومعاناة إنسانية، تشكّل هذه إدانة على نطاق مصغّر لاعتماد واشنطن الفاشل على التدخل العسكري وعملية إعادة بناء الأمة كعلاج لمشاكل سياسية محلية في بلاد بعيدة لا تهدد أمن الولايات المتحدة، وازدهارها، وطريقة عيشها.في البصرة والعراق عموماً يرى الأميركيون أدلة برهنت على مر سنين طويلة أن التدخل العسكري الأميركي فشل في تحقيق نتائج مستدامة مهمة استراتيجياً رغم جهود واشنطن الحثيثة، فيوضح المؤرخ العسكري والكولونيل المتقاعد أندرو باسيفتش: "قد يعتبر البعض أن بذل جهد أكبر، واستثمار المزيد من المليارات، وإرسال كميات إضافية من المعدات خلال 15 سنة أخرى سيؤدي إلى نتائج أفضل". ولكن تمثل هذه كلها "مناورة عقيمة"، فلن تحقق الولايات المتحدة في العرق ما قد يُدعى بإنصاف انتصاراً عسكرياً، فضلاً عن أن تكرار أخطاء الماضي للمرة المليون لن يؤدي إلى نهاية مختلفة.بالنسبة إلى واشنطن، يجب أن تشكّل مراقبة الفوضى في البصرة دافعاً آخر يُضاف إلى دوافع كثيرة تحضها على إجراء تغيير جذري في السياسة الخارجية الأميركية بإعادة توجيهها لتركّز على الدفاع الضروري لحماية المصالح الأميركية وفق تعريفها الضيق. قد لا تكون هذه الأجندة مألوفة في واشنطن، غير أنها تعكس ما يريده معظم الأميركيين، إذ يشير باري بوسن من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في صحيفة "بوليتيكو": "إذا استطعنا قراءة وجهات نظر الشعب الأميركي، نلاحظ أن العدد الأكبر منهم أراد الخروج من العراق منذ انتخاب أوباما"، وما زالوا يرغبون في الأمر عينه بعد انتخاب ترامب، ففي الواقع شكّل رفض كلا الرجلين الحرب في العراق سبباً رئيساً في نجاح حملتيهما.يتابع بوسن: "بالإضافة إلى حجج الداعين إلى ضبط النفس التي تشدد على أن الجهود العسكرية الإضافية في العراق غير ضرورية وغير حكيمة، علينا أن نأخذ في الاعتبار ما إذا كانت هذه الجهود تتلاءم مع وجهات النظر التي يعبّر عنها الشعب الأميركي ديمقراطياً. يا لها من مفارقة أن نرفض نتاج الديمقراطية في الوطن لنمضي قدماً في مسعى عقيم هدفه تحقيق الديمقراطية في مجتمع منقسم وعنيف في الخارج!".يصيب الأميركيون بمطالبتهم بسياسة خارجية واقعية أكثر حذراً، فلا تضحي سياسة مماثلة بالدماء والأموال الأميركية في حروب تهدف إلى نشر الديمقراطية وإعادة تنظيم مجتمعات بدل التركيز على الدفاع عن الأميركيين، فلا تحاول هذه السياسة فرض حلول عسكرية خارجية على مشاكل سياسية داخلية في أمم أخرى، ولا تحمّل الجيش الأميركي عبء مهام لم يُصمَّم للاضطلاع بها ولا تلائمه. كذلك لا تساهم في تعزيز عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، ولا شك أن المشقات المستمرة التي دفعت أهل البصرة إلى التظاهر قبل أيام تمثل تحديات صعبة، إلا أنها تحديات عراقية لا أميركية.لن تختفي هذه المشقات بالتأكيد في ظل غياب تدخل عسكري أميركي، ولن تختفي أيضاً مع تدخل مماثل، فقد فات الأوان لرسم مسار جديد للعراق.* بوني كريستان* «ناشيونال إنترست»
مقالات
ما جدوى الحرب الدائمة في العراق؟
03-10-2018