أعربت مجلة "إيكونوميست" البريطانية في يونيو الماضي عن أسفها إزاء "تقويض دونالد ترامب للنظام الدولي القائم على القواعد"، وسعيه وراء تحقيق "مكاسب قصيرة الأجل لأميركا" على حساب "الأضرار الطويلة الأمد للعالم بأسره"، وإن تصعيد ترامب لحربه التجارية مع الصين- واستعداد كلا الطرفين لمعركة طويلة من أجل القيادة التكنولوجية- يشكل تهديدا حقيقيا.

بدا لفترة طويلة أن التجارة تعود بالنفع على الجميع، وقد عزز هذه الفكرة الإجماع العالمي الواسع النطاق بشأن القواعد التجارية، بما في ذلك حماية حقوق الملكية. على سبيل المثال، تمكنت الصين من الاندماج في الاقتصاد العالمي لأن شركاتها تعلمت كيفية العمل والمنافسة ضمن الإطار الذي وضعته منظمة التجارة العالمية.

Ad

لكن كما أشار الخبير الاقتصادي جوزيف ستيغليتز، الحائز جائزة نوبل، فإن الهوس النيوليبرالي بفكرة الأسواق غير المقيدة لم يأخذ بعين الاعتبار تكاليف توزيع الفوائد الناتجة عن الكفاءة والفعالية، وقد ارتفع معدل عدم المساواة بشكل كبير، الأمر الذي تسبب في استياء متزايد بين سكان العديد من البلدان، ليس من خلال العوامل المحددة التي ساهمت في نموها فقط، ولكن أيضا من خلال الانفتاح والعولمة بجميع أشكالها تقريباً، بما في ذلك الهجرة والتجارة الحرة. هكذا تم انتخاب ترامب، لكن رد الفعل العنيف لا يقتصر فقط على الولايات المتحدة، إذ كان تصويت المملكة المتحدة لمغادرة الاتحاد الأوروبي مدفوعا بمخاوف مماثلة، مثل ظهور القوى السياسية الشعبوية اليمينية في العديد من بلدان الاتحاد الأوروبي، من إيطاليا إلى بولندا، وقد حفزت هذه التطورات السياسية المحضة عملية إعادة صياغة النظام العالمي القائم على القواعد، إن لم يكن تفكيكه.

كل هذا يؤدي إلى تغيرات عميقة على الصعيدين الوطني والدولي، لكن كما أشار ستيغليتز وديفيد كينيدي من جامعة هارفارد في كتاب "القانون والاقتصاد مع الخصائص الصينية عام 2013"، "فإن الأسواق تقوم على أساس النظام القانوني، وتستقر من خلال الأطر التنظيمية". هذا يعني أنه من أجل حل مشكلة فشل الأسواق في توزيع المنافع، من الضروري إنشاء آليات قانونية وإدارية وتنظيمية جديدة، وهي عملية ستستغرق بعض الوقت.

تتعرض الصين- التي تعد الهدف المفضل لدى أولئك الذين يهاجمون النظام العالمي القائم على القواعد- لضغوط شديدة للغاية لإجراء الإصلاحات اللازمة، ونظرا لنمو سوقها بوتيرة أسرع من نمو نظامها الضريبي والتنظيمي والقضائي، فقد عانت البلاد ارتفاعاً في معدل عدم المساواة في الدخل والتلوث والمخاطر المالية والفساد، وهي مشاكل يجب معالجتها في المرحلة المقبلة من الإصلاحات الهيكلية.

ومع ذلك فإن مسألة ما يجب أن تكون عليه هذه الإصلاحات بالضبط تظل موضوع مناقشات ساخنة بمشاركة النخبة الصينية وصانعي السياسات والفئات المحرومة، فضلاً عن المساهمين الأجانب، ومع تصاعد الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، تصبح الدعوة إلى الوضوح السياسي أكثر إلحاحا. يهتم رجال الأعمال الصينيون والطبقة الوسطى السريعة النمو في الصين بشكل أساسي بحماية حقوق الملكية الخاصة بهم، بما في ذلك أمن ثرواتهم المتراكمة في مواجهة تشديد الأنظمة في مجالات الضرائب والتمويل وتدفقات رؤوس الأموال الدولية والبيئة، وفي الوقت نفسه، يشعر الشباب الصينيون والأسر ذات الدخل المنخفض بالقلق إزاء ارتفاع أسعار المنازل، وانعدام الأمن الوظيفي، وقوة السوق السريعة النمو لبعض شركات التكنولوجيا العملاقة التي تضغط على الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم.

من جانبها، تولي الشركات الأجنبية في الصين، فضلاً عن الشركاء التجاريين مثل الولايات المتحدة، اهتماما للحماية غير الكافية لحقوق الملكية الفكرية، والدعم الحكومي المفرط لمؤسسات الدولة، وكذلك السياسات الصناعية التي تهدف إلى التجديد التكنولوجي. علاوة على ذلك ستحتاج عملية صنع السياسة في هذا المجال أن تأخذ بعين الاعتبار التأثيرات المدمرة للتكنولوجيات الجديدة على نماذج الأعمال التجارية وسلاسل التوريد وأنماط الحياة، وحتى السياسة داخل الصين.

ويتعين على قادة الصين تقديم رد قوي وحازم على كل هذه المخاوف المختلفة والمتناقضة أحيانا، وهذا يعني تنفيذ مجموعة من الإصلاحات الجريئة التي تعزز الثقة وتقوي مواقف الصين في المفاوضات مع الولايات المتحدة والمستثمرين الأجانب. يجب أن تتمثل الخطوة الأولى للصين في إعادة تأكيد التزام السلطات لعام 2013، لضمان أن تؤدي الأسواق دورا حاسما في تخصيص الموارد، ومن أجل تحقيق هذا الالتزام، على الصين خلق مجال متكافئ لمنافسة السوق بين الشركات الأجنبية والشركات الصينية الخاصة والشركات المملوكة للدولة.

والخبر السار أنه سيكون من السهل تحقيق الإصلاحات بعيدة المدى خلال فترات عدم اليقين أو الانتقال أو الأزمة، لكن الآن هناك عامل مهم واحد يمكن أن يعوق هذا العمل: محاولة المسؤولين المحليين تجنب المخاطر.

في الماضي، أثبتت التجارب والابتكارات على المستوى المحلي أنها جزء مهم من تقدم الصين، حيث كان التنافس بين المحافظات والمدن والشركات يساعد البلاد في كثير من الأحيان على مواجهة المعوقات البيروقراطية والهيكلية. يتردد العديد من المسؤولين المحليين الآن في متابعة المبادرات الجريئة، وذلك بعد معاقبة زملائهم ورؤسائهم في إطار حملة مكافحة الفساد التي أطلقها الرئيس شي جين بينغ.

مثلما فعل دنغ شياو بينغ في "جولة جنوب الصين" في عام 1992، يتعين على قادة الصين اليوم مضاعفة جهودهم لإطلاق جماح "الغرائز الحيوانية" للشركات المحلية لتحفيزها، إلى جانب تشجيع الحكومات المحلية على قيادة إصلاحاتها. على الرغم من أن الشركاء التجاريين مثل الولايات المتحدة قد يعترضون على طبيعة قيادة الدولة لهذا النهج، فإن النتيجة النهائية ستكون خلق أسواق أكثر استقرارا وديناميكية.

ولتحقيق النجاح، يجب تعزيز البنية الأساسية لحماية حقوق الملكية، بما في ذلك آليات حل النزاعات، ونظام المحاكم، والمعايير التجارية والتكنولوجية، وتحقيقا لهذه الغاية، ينبغي على السلطات النظر إلى البنية الأساسية لحقوق الملكية في هونغ كونغ والولايات المتحدة والمملكة المتحدة والبلدان الأوروبية الأخرى، التي ظلت مستقرة وقوية على الرغم من الاضطرابات السياسية والاجتماعية.

للصين تأثير محدود في تطور- أو بقاء- النظام العالمي القائم على القواعد، ولكن من خلال جعل ترتيبات حقوق الملكية الخاصة بها تتماشى مع ترتيبات الاقتصادات المتقدمة، يمكنها دعم النمو المشترك والتعاون المربح للطرفين، مما قد يؤدي إلى التقليل من حدة التوترات التي عززت في الآونة الأخيرة حالة عدم الاستقرار في جميع أنحاء العالم.

* أندرو شينغ زميل متميز في معهد آسيا العالمي في جامعة هونغ كونغ وعضو في المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة حول التمويل المستدام، وشياو غنغ هو رئيس مؤسسة هونغ كونغ للتمويل الدولي، وأستاذ بكلية الأعمال بجامعة بكين وكلية الأعمال والاقتصاد في جامعة هونغ كونغ.