من البديهي أن يتحول دور المعلومات الخاطئة في الحملات الانتخابية، وكيفية نقلها ونشرها، ومدى تأثيرها في الناخبين إلى محور مناظرة وطنية في الولايات المتحدة منذ الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016. يشمل المذنبون المحددون الأبرز هذه المرة روسيا وإيران والصين، فقد عمل المجتمع الاستخباراتي الأميركي، ممثلاً في لجان الاستخبارات في مجلسَي الشيوخ والنواب، والمحقق الخاص روبرت مولر على توثيق مسهب للجهود التي وجهتها روسيا لتقوض الانتخابات سراً. وفي شهر أغسطس، فصّلت شركة الأمن عبر الإنترنت FireEye «بثقة معتدلة» استخدام إيران وسائل التواصل الاجتماعي «للترويج لروايات سياسية تتوافق مع المصالح الإيرانية»، فقد أشار تقرير FireEye إلى أن «فيسبوك» أزالت أكثر من 652 صفحة ومجموعة وحساباً معنية بهذه المسألة لإعرابها عن «سلوك منظّمة غير حقيقي». أخيراً، ادعى ترامب خلال كلمة ألقاها أمام مجلس الأمن في الأمم المتحدة قبل أيام: «اكتشفنا أن الصين تحاول التدخل في انتخاباتنا المقبلة في نوفمبر عام 2018 ضد إدارتي»، وعندما طُلب منه في وقت لاحق من ذلك اليوم تقديم الأدلة، قال: «نملك أدلة وسننشرها»، ثم أضاف على نحو محير، متحدثاً عن الرئيس الصيني شي جينبينغ: «إنه صديقي».
عندما نغوص في هذه الادعاءات، نلاحظ بشكل جلي غياب الدقة في تحديد واضح للنشاطات المقلقة التي ينبغي منعها بالتالي.
خلط بين الهدف والعمل
لا شك في أننا نرى خلطاً بين أهداف خصومنا المفترضة وأعمالهم المزعومة، على سبيل المثال، يحذّر تقييم المجتمع الاستخباراتي الأميركي من «رغبة روسيا في تقويض النظام الديمقراطي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة»، كما لو أن هذا بحد ذاته جريمة. يمكننا تشبيه هذا الوضع بالقول إن قائداً أميركياً يدعم على ما يبدو الهدف عينه بإساءته إلى حلفائنا الأمنيين، عبر تطبيقه سياسة تجارية حمائية، وتأجيجه القومية، وإعرابه علانية عن إعجابه بحكام مستبدين، وأنه يجب أن يُسكَت قانونياً.على نحو مماثل، ذكر تقرير لجنة الاستخبارات في مجلس النواب أن موسكو منذ عام 2015 «سعت إلى نشر الشقاق في المجتمع الأميركي وتقويض إيماننا بالعملية الديمقراطية». لكن الأميركيين كانوا قد سبقوها وحققوا هم أنفسهم الهدف الأول، في حين سعى عملاء سياسيون مريبون وراء الهدف الثاني قبل وقت طويل من اعتماد مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع.أخيراً، أعلنت شركة فيسبوك في شهر أغسطس أنها حظرت الحسابات، التي يُفترض أن إيران ترعاها، «لأننا نريد أن يتمكن الناس من الوثوق بالروابط التي يبنونها على موقع فيسبوك»، ولكن لا بد من التساؤل عما إذا كان مَن كتبوا هذا الإعلان قد أمضوا فعلاً الوقت على فيسبوك أو إنستغرام.تشكّل الإنترنت كأداة للأهداف السياسية والاجتماعية الخبيثة وأحياناً الإيجابية محور كتاب جديد ممتاز بعنوان LikeWar:The Weaponization of Social Media (الإعجاب بالحرب: تحويل مواقع التواصل الاجتماعي إلى سلاح) لخبيرَي الدفاع بي. و. سينجر وإيمرسون ت. بروكينغ. يشكّل هذا كتاباً مشوقاً أُعد ببحث وتدقيق، فبفهرسته بكل بساطة الكره، والأكاذيب، والدعاية الحكومية، ومراقبة الحكومة التي تتيحها الإنترنت، يرسم أيضاً صورة مقلقة جداً عن غير عمد. ولكن بما أن الروايات المقلقة تُكتشف، وتُعلن، وتُنسى بسرعة، يكتب المؤلفان أنه من الصعب تحديد تداعيات الإنترنت على حرياتنا المدنية، وسلامتنا الشخصية، وكياننا السياسي، أو حتى الأمن القومي والسياسة الخارجية.ساحة القتال الأولى عالمياً
وفي مجالَي الأمن القومي والسياسة الخارجية يطرح هذا الكتاب ادعاءه الأكثر وقعاً: يشبّه استعمال الانترنت عموماً ومواقع التواصل الاجتماعي خصوصاً بالحرب طبعاً. نتيجة لذلك، صارت الإنترنت ساحة القتال الأولى في العالم، ونشكّل كلنا مقاتلين وأهدافاً فيها سواء عمداً أو في غفلة منا. قد تسبب هذه الفرضية الانزعاج لمَن أمضى منا نشأته في دراسة أساليب الحرب الحركية وتوازنات القوى المادية، ولكن للمعلومات التي تتيحها الإنترنت أهمية كبيرة. والدليل على ذلك أن القادة السياسيين والعسكريين يحاولون باستمرار وينجحون في استخدام معلومات مماثلة، بوتيرة ومدى لم نشهد لهما مثيلاً في التاريخ، بغية تحقيق تأثيرات داخل دول أخرى. كذلك ما عاد بإمكان هؤلاء القادة فصل أنفسهم عن المحاولات الموجَّهة من الخارج للتأثير في شعوب بلدانهم: إما يصوغون وجهات النظر هم بأنفسهم أو يسمحون للآخرين بصوغها.لكن كيفية تفسيرنا هذه الجهود تعتمد على المصدر، والرسالة المُراد نقلها، ومدى قدرتنا على تحمل الرياء. فكما برهن دوف هـ. لفين، الذي أصبح اليوم بروفيسوراً مساعداً في جامعة هونغ كونغ، من خلال مجموعة بياناته التي تتبعت تدخل القوى العظمى في انتخابات دول أخرى بين عامَي 1946 و2000، تدخل الاتحاد السوفياتي/ روسيا والولايات المتحدة سراً عموماً في 117 عملية انتخاب من أصل 938 حول العالم، علماً أن واشنطن قامت بذلك بنحو الضعف (81 تدخلاً)، مقارنة بموسكو (36)، لا شك في أن كل القوى العظمى تنادي بأعراف عالمية تنتهكها عملياً، وينطبق الأمر عينه على التدخل في الشؤون المحلية لدول أخرى.لكن مَن يعتبره البعض ملفق روايات متطرفاً يراه البعض الآخر شخصاً شجاعاً يكشف الحقائق، تماماً كما أن ترويج البعض لمعلومات صحيحة يعتبره البعض الآخر محاولة لاستعمال هذه المعلومات كسلاح. غير أن المسألة التي اختار الأميركيون تجاهلها خلال الأشهر العشرين الماضية تبقى: لمَ صدّق الشعب إلى حد كبير المعلومات الخاطئة المزعومة التي طرحتها الصين، وإيران، أو روسيا وعمل بعد ذلك على نشرها؟اختار السياسيون والمحللون إلقاء مسؤولية انقسامات الولايات المتحدة على كاهل خصومها، لكن هذا يشبه محاولة منع تعاطي المخدرات بالتركيز فحسب على الدول الأجنبية حيث تُنتَج هذه المخدرات (مع نسيان بالتأكيد أن كميات كبيرة من المخدرات تُصنَّع في الداخل). تنمو الشهية إلى معلومات انتقائية، ومتحيزة، ومتعصبة وستواصل تفاقمها بالنظر إلى الميول التي نراها في ثقافة المعلومات، والتفكير النقدي، والتحزّب لدى الشعب الأميركي، ولا يستطيع البلد بكل بساطة التخلص من انحيازه التأكيدي بالأماني.* ميكا زنكو