أزمة الخلافة في الجزائر: انقسامات كثيرة... وما من منتصر
في السنوات التي تلت الربيع العربي، ظلت الجزائر معزولة إلى حد كبير عن الفوضى والاضطرابات التي انتشرت بسرعة في منطقة الشرق الأوسط. ومع ذلك، يتنامى الشعور بالاستياء وعدم الرضا فيها، كما تواجه البلاد بشكل متزايد وصفة تنذر بوقوع أزمة، فأسعار النفط المنخفضة، ومطالب الشباب المتنامية، وانعدام الأمن في البلدان المجاورة مثل ليبيا والساحل تشكل كلها تحديات خطيرة للحكومة الجزائرية. وفي حين أظهر النظام قدرة على إدارة هذه الأزمات بطريقة منضبطة، فإن انتقال السلطة في حال توفي الرئيس بوتفليقة أو ترك منصبه بشكل غير متوقع سيمثل تحديا أساسيا بالنسبة للجزائر في الأعوام القادمة.إن مسألة الخلافة غالبا ما يساء فهمها، حتى في كل أنحاء العالم العربي، حيث إن بوتفليقة هو العضو الأبرز في النخبة الجزائرية. ولكن، للتمكن من فهم القوى الفاعلة وراء النظام الذي سيؤثر على سياسات الخلافة يجب فهم النظام الحاكم في الجزائر والأنماط التي شكلت المشهد السياسي الجزائري.
وفي هذا السياق، لقد فرّق النظام السياسي المعقد في الجزائر مراكز السلطة، كما لا يخضع لسيطرة أي شخص أو مؤسسة، خلافا للنموذج الأوتوقراطي الأكثر شيوعا والمعتمد من قبل الدول العربية الأخرى.
عنصران حاسمان
يعتمد النظام السياسي الجزائري منذ الاستقلال على ديناميكيتين حاسمتين لموازنة القوة. أولا، لقد استمد الرئيس الجزء الأكبر من مصداقيته من الذاكرة الجماعية لحرب الجزائر من أجل الاستقلال ومشاركته فيها، ثانيا، إن تقاسم السلطة بين «جماعة تلمسان» في غرب الجزائر و»الجماعة الشرقية» - اللتين تقسمان كافة شرائح الشعب الجزائري الرئيسة – يوفر لكليهما حصة دائمة من السلطة داخل النظام الحكومي. وغالبا ما يكون هذا النظام قوة توازن داخل الحكومة ونظام المعارضة، حيث تتناوب الائتلافات الحاكمة بين مختلف الأطراف مع مرور الوقت، فمنذ استقلال الجزائر، أدى تقاسم السلطة بين الجماعتين إلى مجموعة واسعة من الترتيبات السياسية التي ضمنت فيها العناصر الرئيسة للجماعتين مواقف حكومية رسمية و»نفوذا» يصعب قياسه.تبرز هذه الديناميكيات في تقاسم السلطة في فترة ولاية بوتفليقة كما في الفترات السابقة تماما. فالتحالف بين الرئيس، الذي يمثل «جماعة تلمسان»، ورئيس أركان الجيش قايد صالح، الذي يتزعم «الجماعة الشرقية»، خلق قوة هرمية، تترابط فيها مصالح الجيش والرئاسة وأعضاء النخبة السياسية والاقتصادية.في نصف القرن الذي مر على إنشائها، حافظت ديناميكيات النظام الجزائري على نمط العملية الانتقالية الدائمة للبلاد، ولكن، لم تعد القواعد التي تحكمه سارية المفعول، حيث إن معظم المحاربين القدامى الذين قاتلوا ضد الفرنسيين قد ماتوا. وعليه، فإن التسوية القائمة على المقياس الثاني للانشقاقات الاجتماعية قد لا توفر شرعية الديناميكية الأولى - أي المشاركة في الكفاح من أجل استقلال الجزائر. لذا، سيفتقر رئيس من جيل ما بعد الاستقلال إلى الشرعية الموضوعية والمصداقية التي يملكها بوتفليقة حاليا. وعلاوة على ذلك، يزداد الغموض حول من الذي يملك سلطة حق النقض (الفيتو) على أعمال الحكومة، ومن بينها اختيار خليفة الرئيس. ونتيجة لذلك، تحول السعي الى تحقيق توافق في الآراء حول الخلافة إلى «حرب باردة» بسبب استمرار الخلافات. كما أدت «الحرب الباردة» هذه إلى الابتزاز السياسي، وركود الحكم، والتحولات السريعة في صنع السياسات، حيث تسعى مجموعة متغيرة من أصحاب النفوذ إلى السيطرة على اختيار خليفة بوتفليقة.التحضير للعام المقبل
بعد تعرض بوتفليقة لجلطة دماغية في عام 2013، حد الرئيس من ظهوره العلني، ما أثار تكهنات وسائل الإعلام المحلية حول قدرته على إتمام ولايته. وفي هذا الإطار، وصف بوتفليقة نفسه بأنه «متعب سياسيا» وأفاد بأنه قد «ولت أيام جيلي». ومع ذلك، فقد فاجأ المراقبين عندما فاز في العهدة الرابعة في عام 2014، حيث أدلى بصوته وهو على كرسي متحرك.تزداد التكهنات في الفترة التي تسبق انتخابات عام 2019، ومن بينها الاقتراح الداعي إلى تفعيل المادة 88 من الدستور الجزائري التي تنص على أنه «إذا استحال على رئيس الجمهورية ممارسة واجباته بسبب مرض خطير ومزمن، فإن المجلس الدستوري يقترح بالإجماع أن يكشف البرلمان عن الأسباب المعوقة». وتنص المادة أيضا على أنه «يحق لرئيس الجمعية الوطنية تولي رئاسة الدولة القائمة بالتصرف لمدة أقصاها 45 يوما». ولكن، في حال «لا يزال الرئيس غير قادر على مواصلة مهامه بعد انقضاء مهلة الـ 45 يوما، يعلن البرلمان عن شغور منصب رئاسة الجمهورية».في ظل هذه الظروف، يشكل تعيين الخليفة أمرا في غاية الأهمية لضمان انتقال السلطة سلميا وبسلاسة. من الواضح أن الخطط مهيأة لمحاولة القيام بعملية انتقالية مستقرة، لكن من غير الواضح ما إذا كانت الدائرة المقربة من الرئيس تستطيع تمهيد الطريق لولاية خامسة مستقرة تحافظ على الوضع الراهن إلى أن يظهر مرشح توافقي.لقد تصاعدت الحرب الباردة على الخلافة بعد انتخاب الرئيس مجددا في عام 2014. وبدلا من تأمين الاستقرار اللازم في فترة ما بعد ولاية بوتفليقة، أقصى هذا النزاع الداخلي عددا من المرشحين المحتملين للرئاسة المستقبلية من دون توفير البدائل. كما أدت سلسلة من عمليات التسريح داخل النظام الجزائري إلى تغييرات كبيرة في المشهد السياسي، حيث كان بعضها من تدبير بوتفليقة نفسه. أولا، سارع الرئيس إلى تفكيك الوكالة الجزائرية الشهيرة «دائرة الاستعلام والأمن» التابعة للسلطة الجزائرية عن طريق إقالة زعيم الدائرة المخضرم محمد مدين في عام 2015. ثم قام بوتفليقة بتغيير تسمية الوكالة من «دائرة الاستعلام والأمن» إلى «دائرة المراقبة والأمن»، واستبدالها بجهاز استخبارات خاضع للسيطرة الرئاسية كخطوة أخيرة لتعزيز قبضته على السلطة. ويشار إلى أن مدين كان يعرف بـ «رب الجزائر»، وقد أتاحت إقالته مجالا أكبر أمام بوتفليقة للجوء إلى عملية انتقالية هادئة، والآن، لا تملك «دائرة المراقبة والأمن» سلطة اتخاذ القرار بشأن مصير الجزائر السياسي، ويشمل ذلك اختيار خليفة للبلاد.وفي هذا الإطار، هناك قوى أخرى تشارك إلى جانب الرئيس في معركة الخلافة هذه. فلقد أوقفت القوات الخاصة من البحرية الجزائرية سفينة مبحرة من فالنسيا وضبطت 701 كلغ من الكوكايين في ميناء وهران غرب الجزائر، وشملت قائمة المشتبه بهم المتورطين عددا من الشخصيات العامة من بينهم قضاة ومدعون عامون ورؤساء بلديات، إلى جانب السائق الشخصي لـ «عبد الغني هامل» – المدير العام للأمن القومي والعضو في دائرة النخب السياسية الجزائرية الضيقة. نفى هامل الاتهامات واعتبرها هجوما شخصيا من قبل رئيس أركان الجيش قايد صالح. وبالفعل، دفعت الضغوطات التي مارسها صالح إلى إقصاء هامل من مركزه كمرشح محتمل لخلافة بوتفليقة، ما أدى إلى انتهاء مسيرته السياسية.ضحية أخرى
أما عبد المجيد تبون، رئيس الوزراء الأسبق، فكان ضحية أخرى لهذه الصراعات على السلطة، فقد تم إعفاؤه من منصبه كرئيس للوزراء بعد تعيينه بثلاثة أشهر فقط. إذ اعتبر كثيرون أن تبون هو من أتباع قايد صالح داخل النظام ومرشح محتمل للجماعة الشرقية، كما أضعف عزله موقف رئيس هيئة الأركان العسكرية في اختيار مرشح. وفي هذا الصدد، ذكرت مصادر حكومية أن هناك مشاكل تواصل بينه وبين الرئيس، لكن السبب الرئيسي وراء إقالته انبثق من مساعيه للحد من قوة بعض الأوليغارشية الحاكمة، بمن فيهم رئيس منتدى رؤساء المؤسسات علي حداد، الذي ينتمي للفصيل الرئاسي. فكان ذلك خطا أحمر بالنسبة للدائرة المقربة من الرئيس.خلال هذه الصراعات على السلطة، تمتنع كلتا الجماعتين عن العنف، لكن لم يباشر أي منهما في عملية مصالحة جدية لضمان مرحلة انتقالية تتسم بالاستقرار. حتى الآن، يبدو أن «الفائز» في هذه الحرب الباردة هو قايد صالح، لكنه لا يزال غير قادر على التصرف في ما يتعلق بعملية اختيار الرئيس من دون مراعاة «جماعة تلمسان»، كما أن تصاعد الحدة بين نخبة الطرفين لن يؤدي سوى إلى تعقيد هذه العملية.ونظرا لهذه المكائد، فليس من المستغرب أن تستمر الجماعتان في تفضيل بوتفليقة، حتى لو كان مسنا ومريضا، على حسم المواجهة في مسألة الخلافة خلال الانتخابات المقبلة. ومع ذلك، فإن حملة «التنظيف المنزلي» لا تسهل عملية تبني مرشح توافقي، إذ إن الظروف التي أثبتت شرعية بوتفليقة لم تعد قائمة، وسيتعين على المؤسسة السياسية في الجزائر أن تجد في نهاية المطاف ديناميكية جديدة مستقرة بما يكفي لتحل محل تلك التي توفرت بالمشاركة في استقلال الجزائر، وإلا فستواجه تحديات البلدان الأخرى من دون الاستقرار السياسي الذي ميز الجزائر حتى الآن. ● عبدالإله بن داودي
أسعار النفط المنخفضة ومطالب الشباب المتنامية وانعدام الأمن في البلدان المجاورة مثل ليبيا والساحل تشكل كلها تحديات خطيرة للحكومة الجزائرية