جورج تلك الصداقة النادرة
لم يتوقف القصف والقذائف تبدو كالمطر، والجنود يعبرون بهو الفندق جرياً، إما قادمين أو راحلين ربما لتقديم الدعم لفرقهم في الميدان، بعد لحظات هي حقيقة كانت ساعات طويلة سمح لنا بالخروج من المخبأ، فأسرعت إلى بهو الفندق، فقد كنا أنا وهو على موعد عندما فتحت السماء أبواب الجحيم، ولم تقفلها إلا بسحب كثيفة من الدخان الأسود، وأصوات استغاثات نسمعها عبر أجهزتنا وتواصلنا مع الكثيرين من مختلف الأطراف. هو كان في مبنى الجامعة في تلك المدينة الساحرة قبل أن ينال منها الموت الكثير، قال لي إن بين فندقنا ومبنى الجامعة شارعاً صغيراً، ولكن وما إن وصلنا حتى فتحت أبواب الجحيم من جديد، لم نستطع أن نتواصل، تم دفعنا إلى الملجأ وبقينا هناك ساعات، وما إن خرجنا وجلسنا في بهو الفندق حتى وجدت وجهاً بابتسامة عريضة يلوح لي عند مدخل الفندق أو ما تبقى منه، لم أتخيل أن أكثر من 18 سنة تفصل بين لحظة وداعه في مطار هيثرو عائداً إلى بلده حاملاً شهادة الدكتواره بفخر واعتزاز ليضعها أمام والدته ووالده بعد سنوات من الفراق، منذ أن حصل على البعثة لإكمال دراسته في تلك الجامعة البريطانية العريقة، حيث التقينا للمرة الأولى ومع الوقت أصبحنا ثلاثة أصدقاء لا نفترق أنا وهو ووعد.حضنني بدفئه المعهود وراح يردد بضحكته التي لم تفارقه أبداً حتى الآن، حتى هذه اللحظة من الألم الذي اكتسح مدينته بل وطنه من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، تحدثنا وكأننا قد وضعنا فاصلة منذ لقائنا الأخير في مطار هيثرو، ذكرني بأنني أصررت على أن أوصله للمطار رغم أنها عادة قديمة وغير معهودة في لندن حيث المطار بعيد، وكيف أننا احتفلنا بتخرجه لكذا يوم أولها في درهم حيث كنا ندرس وآخرها في لندن بين كثير من أصدقائه الذين لم أكن أعرفهم، ولكنني أحببتهم من محبته، كان الصديق الذي لا يشبه أي صديق آخر، كانت تلك الصداقة نادرة جداً بين ثلاثة أرواح تلاقت في زمن ما بين الفواصل، هو لا يهتم بالسياسة أبداً وأنا وعهد مصابتان بهوس اسمه السياسة ومتابعة الأخبار، هو كان يعمل على أن يعلمنا بأن الحياة أكبر من معركة هنا أو هزيمة هناك، وأن علينا أن نبحث عن الحب والجمال في كل تفاصيل الحجر بتلك البلدة العريقة التي عاش فيها بدر شاكر السياب، فكتب فيها كثيراً من شعره.
أمضينا ساعات نحتسي القهوة، ونتحدث كأننا نسابق الزمن والقذائف وكل المنغصات، تبادلنا الأخبار وروى كل منا للآخر، ماذا حدث منذ أن افترقنا في ذلك اليوم اللندني الغائم حتى هذه اللحظة، كثير من الماء مر تحت ذلك الجسر، كانت تلك أغنية ستنج التي كانت تتحدث عن نيوكاسل تلك البلدة المجاورة التي امتلكت الكثير من مظاهر الحياة المتنوعة مقارنة ببلدتنا درهم، حيث النهر والشجر والكاثدرائية العريقة. افترقنا على عهد بلقاءات عديدة، عهد فشلت في تحقيقه رغم الرغبة الجامحة، خصوصا بعد أن سكتت أصوات القنابل في مدينته، وعاد بعض الحياة لها، وكان العهد أنه يريد الاحتفاء بي في مدينته، ما هي إلا أشهر فيأتيني صوته ضعيفاً بالكاد أستطيع أن أسمعه لأكتشف أنه أصيب بالسرطان... قاوم الحرب طويلا ورفض الخروج لظروف وقناعات عدة وهزم القذيقة، ردد أنه سينتصر على هذا المرض كما انتصر على الكثير من الصعاب من قبله، حاول أن يرسل عبر أسلاك الهاتف ضحتكه المعهودة فجاءت ضعيفة، بقينا على تواصل حتى أنه في إحدى المرات قال أريد أن أكمل العلاج في بيروت، وعاد ليقول أعتقد أنني سأكون بخير. كانت مكالمته الأخيرة مطولة، وصف لي ما كان على مائدة طعامهم ذاك اليوم، وقال "تفضلي شرفينا"، وتحدث عن كل شيء إلا هو، كعادته حاول أن يطمئنني بأنه بخير وأن عليّ ألا أقلق، وكعادتي قلقت عليه، ولكني لم أتخيل أن المرض سينتصر عليه أسرع من تلك القذيفة. جورج كم لك وحشة، وكم ستشتاق لك جدران حلب العريقة! وكثيرون من طلابك ونحن جميعا، ستبقى ضحكتك وأحاديثك المليئة بالحيوية تسكننا وتعيد لنا أياماً معك!!* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية