«لغة السر»... تشكيكٌ في الدين وجذور اللغة والحقيقة
في روايةٍ ثلاثية الأبعاد بعنوان «لغة السر»، تنطلق نجوى بركات بخفّة فراشة تبث إيحاءات فلسفية عميقة الآماد، حول سرّ الخلق وتكوين اللغة وحروفها ووهج الحقيقة الساري في التجويف الداخلي للوهم.
في باحة «أخوية الوفاء» الدينية التي تضمّ في معبدها «لوح القضاء والقدر» ولا يسمح لأيّ إنسانٍ بلمسه أو الاقتراب منه لأنه حتماً سيصاب بالعمى لمجرّد لمسه، وحيث يؤم أهل قرية «اليسر» (وهو اسمٌ ظاهره معطى لقرية وباطنه يرتبط بالمنحى اللفظي الذي ذكر في الكتب السماوية) للتبرّك والدعاء وجلب الأحجبة وتفريغ الهموم، تدور أحداث رواية بركات «لغة السر» التي تكادُ تقترب من فلسفة محفوظ في موازاةٍ عمودية لفكرة تكوين الكون والخلق معاً.وهناك، حيث يسرق اللوح ويُتهم كثيرون في الضلوع بالجرم، منهم خلدون الذي تقدّم لامتحان حارس المعبد ورفض بسبب معرفته بزيدون الذي يمتلك حانوتاً في القرية لبيع الورق، وقد كان تلميذه المثابر في تكهّن أصل الحروف ومعانيها وبلورتها في فضاء المعاني وتجميعها وتفكيكها بطريقة منهجية. يدفع ذلك الشيخ الأكبر، وهو رئيس المعبد وحامي أخوية الوفاء، إلى أن يرفض زيدون الذي نكتشف في النهاية بأنّه كان تلميذاً لدى الشيخ الأكبر ولكنه طرده بسبب جرأته على التحليل عندما أقرّ في كتابته مذكراته بأنّ حقيقة اللغة من صنع الإنسان وليس الخالق، فهو من بدأ اللغة بالصوت ثم الإيماءات، ومن ثمّ كوّر الحروف حسب جودتها وصورتها للأشياء، وهذا ما يثير سخط الشيخ الأكبر فيعتبره إبليساً.
التنصّت الميتافيزيقي
جميع الشخصيات تدور في فلك التشكيك والتنصّت الميتافيزيقي للأرواح المتهدّلة بين الشك واليقين. المأمور الذي أتى إلى القرية بهدف كشف الحقيقة يميط اللثام عنها ويكتشف بأنّ خلدون حاول فعلاً سرقة اللوح المقدس ولكنه اكتشف بأنّ المعبد خالٍ منه، ووجد بأنّ مكانه مسرح للعناكب والغبار، وقد بنيت قرية بأكملها بمعتقداتها وأفكارها واستسلامها للمصائر على فكرة هذا اللوح الذي لا وجود له أصلاً. تنتهي الرواية كما يتوقع القارئ، بانتحار الشيخ الأكبر دفاعاً عن فكرة التشبث بالوهم، وباتفاق ضمني بين المأمور وإخوان الوفاء على التستّر على السر الرهيب حتى لا تقوّض ركائن قرية بأكملها وتنهار تقاليد واعتناقات عمرها آلاف السنين.هذا التخبّط التحليلي العميق، ينتج فكرة معتمة تحاول الكاتبة تسليط الإيحاء العابر عليها، وهو التشكيك في كيفية خلق الأديان وأنها قد تكون وليدة المصادفة أو العقل الإنساني المستنير فجاءت لطمأنة الإنسان فقط لا غير.تساؤلات شديدة الوقع
فهل الحقيقة تتربّع في الروح وتستمد الطاقة الحركية منها، أم أنّها تأتي من خارجها حيث العالم الحقيقي؟ وهل الله فكرة اخترقت حجب تلك الروح لتروّضها على الخير أم أنّه موجودٌ وراسخٌ منذ الأزل؟ وهل كانت اللغة مرصوفة في لوح القدر منذ الأزل أم أنّها تجزّأت وتمكّنت وتفرّدت بهامتها بدءاً من حرف «الألف» على يد الإنسان وتطوّرت لتصبح عالماً مؤهّلاً للإيمان بالسحر من فرط اتقانها؟تساؤلات مثيرة وشديدة الوقع تطرحها بركات بأسلوبٍ رشيق متمكّن، يسكنه التشويق بتفاصيله كلها، فتربط القدر بالواقع، والإنسان بخالقه، والحقيقة بوهمها، أي أضداد الأشياء في دائرةٍ تصويرية، تدفعنا إلى التأرجح في إشكاليات كونية عدة، والسرد مبطّن بإشارات فلسفية، ظاهر بالسرد الأخّاذ، مستدرجٌ بأسلوبه الميثولوجي العميق.أدلة منطقية
لم تترك الكاتبة التفاصيل تمرّ مرور الكرام، بل دعمت أفكارها وشكّها بأدلّة منطقية قد لا توافق الكثير من العقول، ولكنها تبقى حجّتها وسندها وهيكلها الذي تقوم عليه أحداث حكايتها وأبعادها وشخوصها التي تتلوّى بجمر الوهم الذي يعمّ فيكون بمنزلة المخدر للعقول الجاهلة التي تستنبط الأمل من المحال، باعتقادها بأنّ الكتاب المقدّس قادرٌ على اجتراح المعجزات، والحقيقة التي هي أقوى من وقع زلزال، فتحبط وتقتل وترسم أقداراً.بغضّ النظر عن تبنّي القارئ نظرية نجوى بركات من عدمه، فإنّ قلمها يلج عتبة السرد الروائي بإبداعٍ مفرط ولن يستطيع أن ينال من حبكتها المحكمة النقاد، ولكن النقد يسري على نظريتها الفلسفية التي هي موضوع جدلٍ كبير.
تساؤلات مثيرة وشديدة الوقع تطرحها بركات بأسلوبٍ رشيق متمكّن