عند متابعة الجلسات النقاشية في وسائل الإعلام الأميركية، يوحى إليك وكأن نقيض "أميركا أولا" هو التدخل في شؤون الدول الأخرى، ويقصد بهذا الأخير ميول أميركا المتواصل نحو إعلان الحروب وإظهار قوتها العسكرية التي لا نظير لها، لكن التدخل في شؤون الدول الأخرى لا يشبه الدولانية (سيطرة الدولة). إذ يُلغي الخلطُ بين الاثنين الفرق بين استعمال القوة على نحو سريع وحاسم، وبين الالتزام العقلاني بالتدخل في شؤون العالم وفي مشاكله.

وفي سياسية "أتمم عملك" الأميركية التي تندرج ضمن فلسفة الرؤية الكونية، تعتبر الصراعات الدولية تحديات عسكرية وليست قضايا سياسية كما تبدو، وفي واقع الأمر غالبا ما يكون العكس هو الصحيح، ولهذا، نادرا ما تُحَل أكثر النزاعات تعقيدا في العالم عن طريق التدخل.

Ad

إن للصراعات السياسية تاريخا طويلا ووسخا، وليس العنف سمة متأصلة فيها بقدر ما هو علامة تؤكد عدم قابلية هذه الصراعات للتسوية، فغالبا ما تكون لهذه الصراعات علاقة بالهوية، والعنف، وادعاءات بشأن الملكية المشتركة لأرض توجد على مقربة كبيرة من "دولة" معينة، إن المشاركة السياسية غالبا ما تكون مبنية على العرق أكثر من القيم المدنية، مما يتناقض مع الإدراك الأميركي لمفهوم الدولة.

وعلاوة على هذا، يمكن أن تكون المشاكل التي يشهدها المجتمع المعاصر وليدة الترتيبات الخاطئة التي أعدت منذ عقود، بل منذ قرون، وخير مثال على ذلك اتفاقية سايكس بيكو لعام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، التي قسمت الشرق الأوسط، ومعاهدة فيرساي لعام 1919، التي أسفرت عن خلق حدود وطنية في البلقان، وفي كلتا الحالتين ربما كان يبدو أن الحل الناجع لحل الخلافات هو خلق دولة جديدة، لكن في آخر المطاف، تبين أن ذلك الحل كان تمهيدا لاندلاع المزيد من الحروب.

وفيما يتعلق بالولايات المتحدة الأميركية، غالبا ما تكون النزاعات الدولية فرصة لإظهار "القوة" والتدخل "للحل"، وكان الهدف من الضربات الجوية الأميركية في البوسنة هو الدفع بالعملية السياسية المدعومة من قبل الاتحاد الأوروبي وروسيا إلى الأمام، وكانت الحملة الجوية آخر خيار من أجل معاقبة من لم يدعم مسلسل السلام.

وأدرك العديد من الخبراء والسياسيين الأميركيين، آنذاك، أنه كان بالأحرى ضرب الأشرار فورا، والقليل منهم فقط من حاول دراسة تاريخ المنطقة من أجل تحديد خط الحدود المشتركة بين الكيانين، ولو أنهم فعلوا ذلك، لبذلوا جهدا أكثر بموجب قرارهم الأخير للحفاظ على الحدود الخارجية، ولبناء مؤسسة دستورية تمكن الدولة الجديدة من الانضمام إلى خريطة أوروبا.

وكان لكوسوفو تاريخ معقد أيضا مما جعل العديد من الأميركيين يرفضون الغوص فيه، إذ كانوا يسخرون من الدبلوماسية اللازمة لتصبح كوسوفو منطقة ذات سيادة مع احترام الارتباط العاطفي للصربيين بها؛ مما جعل التدخل العسكري أول خيار، بدل أن يكون الأخير، لضمان استقلال كوسوفو، دون الأخذ بعين الاعتبار رفض العديد من الدول الأوروبية خلق دولة مستقلة، وكانت أوروبا قد قد دعت من قبل إلى اعتماد دبلوماسية متعددة الأطراف قبل أي مناقشة بشأن شن ضربات جوية.

لقد استمر التدخل في شؤون الدول، الذي أصبح لاحقا الدولانية، حتى القرن الحادي والعشرين، لكن على نطاق أوسع، فبعد هجمات الـ11 من سبتمبر 2011، اقتحمت الولايات المتحدة الأميركية أفغانستان واحتلتها لتطرد جماعة القاعدة من أراضيها، لكن بعد مرور 17 سنة على وجود القوات الأميركية في هذا البلد، فقد الأميركيون صبرهم، وأيد العديد منهم انعزالية سياسة "أميركا أولا" للرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفي العراق حيث العلاقة مع الإرهاب أمر مشكوك فيه، استثمرت الولايات المتحدة الأميركية جهودا كبيرة بغية تحقيق أهداف معقدة وغير ثابتة، لم يُشَر إليها بوضوح أبدا.

إن تدخل أميركا في شؤون الدول غالبا ما يعرضها للانتقاد من طرف أصدقائها وأعدائها، الذين تَصِفهم بالضعفاء والمترددين في مواجهة التحديات العالمية، مثل استيلاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على القرم، وتصاعد قوة الصين في بحر جنوب الصين.

وعندما انقلبت الأمور على عقبها في أفغانستان والعراق ألقت الولايات المتحدة الأميركية اللوم على القادة السياسيين لتلك البلدان، واصفة إياهم بالمفسدين، وبالتالي وَجَب إسقاط نظامهم، وكان للأوروبيين نصيب من التنديد أيضا، ليس بسبب عدم قدرتهم على مواجهة الشر فقط، بل أيضا لأنهم يعيشون حياة مليئة بالرفاهية والسعادة دون تحمل أعبائهم.

ونظرا لتغلغل هذا النوع من الخطابات في أذهان الأميركيين، ليس من الغريب إذا، أن تغلب نظرية عالم الواقع المرير على الدولانية، التي أصبحت مرادفة للاستعمال غير المتناهي للقوة والتعالي على الحلفاء.

إن الدولانية الأميركية سترجع إلى حد ما، لكن ينبغي على مؤيديها تسريع عودتها وفقا لمغزاها الأصلي، فالدولانيون الحقيقيون يحترمون آراء الآخرين، ويُعَبرون عن رغبتهم في تقبل البنيات المتعددة الأطراف والدفاع عنها أيضا.

إن ما يحتاجه التدخل في شؤون الدول اليوم، هو تجديد الالتزام الأميركي بالتعاون، حتى عندما تتطلب الحكومات الأخرى المزيد من الوقت لضمان حصولها من ناخبيها على أمر رسمي بالتدخل، ففي نهاية المطاف، يجب أن تُبنى القيادة الدولية الأميركية على القيم الأميركية، واعتراف واسع النطاق بتمسكهم بالقيم الثابتة للديمقراطية الليبيرالية.

بمعنى آخر، يجب أن تكون أميركا قدوة في القيادة، إذ أدى فشلُها في أن تكون كذلك في السنوات الأخيرة- خصوصا فيما يتعلق بمسألة اللجوء– إلى إضعاف التأثير الذي تمارسه على الساحة الدولية.

* كريستوفر روبرت هيل

* مساعد وزير الخارجية الأميركي سابقا لشؤون شرق آسيا، والمستشار الأول لدى مركز الالتزام العالمي وأستاذ ممارسة الدبلوماسية في جامعة دنفر، ومؤلف كتاب آوتبوست.

«بروجيكت سنديكيت، 2018»

بالاتفاق مع «الجريدة»