كانت الأزمة المالية الاقتصادية العالمية التي اندلعت في عام 2008 أكبر اختبار إجهاد للاقتصاد منذ أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين، والتحدي الأكبر في مواجهة الأنظمة الاجتماعية والسياسية منذ الحرب العالمية الثانية، فهي لم تعرض الأسواق المالية والعملات للخطر فحسب؛ بل إنها كشفت أيضا عن أوجه قصور تنظيمية وإدارية خطيرة لم نتعامل معها بشكل كامل بعد.

الواقع أن أزمة 2008 ستُذكَر في الأرجح بوصفها لحظة فاصلة، ولكن ليس لأنها أدت إلى إصلاحات أفضت إلى تعزيز المرونة الاقتصادية وأزالت نقاط الضعف، بل على العكس من ذلك، كان فشل القادة في استيعاب دروس أزمة الركود العظيم، ناهيك عن التصدي لها، ربما يفتح الطريق أمام سلسلة من الأزمات الجديدة، الاقتصادية وغير الاقتصادية، في العقود المقبلة. مهما بلغت هذه الأزمات من خطورة، فسيشعر المؤرخون بعد قرن من الآن في الأرجح بالإحباط واليأس إزاء قِصَر نظرنا، وسيدركون أن المحللين والقائمين على التنظيم كانوا يركزون بشكل ضيق على إصلاح النظام المالي من خلال تعزيز أنظمة الرقابة الوطنية. ورغم أن هذا كان هدفا يستحق العناء، فسوف يشير المؤرخون إلى أنه لم يكن الحتمية الوحيدة على الإطلاق.

Ad

فلتحضير العالَم لمواجهة التحديات التي تفرضها العولمة والتطور التكنولوجي على النحو الذي يدعم النمو المستدام العادل، لابد من تحسين مؤسسات الحكم والضوابط التنظيمية على المستويين الوطني والدولي بشكل جدي، ومع ذلك لم يكن الاستثمار في هذا الجهد كافيا، فبعيدا عن الكيانات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي، ظلت الحوكمة المالية الدولية على حالها إلى حد كبير. الأسوأ من ذلك هو أن الإصلاحات الجزئية للنظام المالي، والتي من شأنها أن تمكن المزيد من العولمة، سوف تنتهي إلى زيادة الأمور سوءا على سوء، مع زيادة الضغوط على أطر الحوكمة والضوابط التنظيمية غير الكافية بالفعل، ليس في مجال التمويل فقط، بل أيضا في ميادين اقتصادية وتكنولوجية أخرى. من ناحية أخرى، من المرجح أن تعمل الاستثمارات المالية الضخمة التي تركز على تأمين أعلى معدل عائد ممكن على تغذية الإبداع التكنولوجي، وبالتالي زيادة الضغوط على الأجهزة التنظيمية في عالَم التمويل وغيره. وربما يتسبب التقدم التكنولوجي الكبير الذي يتغذى على الأموال الرخيصة في دفع الأسواق إلى التغير بسرعة كبيرة إلى الحد الذي يعجز معه التغير السياسي والمؤسسي عن ملاحقتها، ومن الممكن أن تنشأ أسواق جديدة تقدم مكافآت ضخمة لأول من يحتضنونها أو يستثمرون فيها، والذين يستفيدون من البقاء على مسافة عِدة خطوات أمام الهيئات التنظيمية الوطنية والدولية. هذا هو ما حدث في الفترة التي سبقت اندلاع أزمة 2008، وقد عملت الأدوات المالية التي مكنتها التكنولوجيا الجديدة على خلق الفرص لبعض المشاركين في السوق لتحقيق مكاسب ضخمة، لكن الهيئات التنظيمية كانت عاجزة عن ملاحقة الإبداعات، التي انتهت إلى توليد المخاطر التي أثرت على الاقتصاد بأسره.

يشير هذا إلى فارق جوهري بين الأزمات العالمية في القرن الحادي والعشرين، ولنقل، أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين، بل أي انهيار شهدته أسواق البورصة في الماضي، فبسبب نمو القطاع المالي، يستفيد عدد أكبر من القوى من نقص التنظيم وضعف الإدارة في الأمد القريب، الأمر الذي يزيد من صعوبة منع أزمات اليوم. وما يزيد الأمور تعقيدا أن الأنظمة المتأثرة بأزمات اليوم تمتد إلى ما هو أبعد من صلاحيات أي هيئة تنظيمية واحدة، وهذا يزيد من صعوبة التعامل مع الأزمات، وصعوبة التنبؤ بعواقبها، بما في ذلك تأثيرها على السياسة في الأمد البعيد.

وربما تكون الأزمات القادمة- التي أصبحت أكثر ترجيحا بفِعل النزعة القومية المتصاعدة وتفاقم عدم احترام العِلم وصنع السياسات استنادا إلى الحقائق- مالية في الأساس، لكنها قد تشمل أيضا عوالم متنوعة متباينة مثل الهجرة، والتجارة، والفضاء الإلكتروني، والتلوث، وتغير المناخ. في كل من هذه المجالات، تعاني مؤسسات الحوكمة الوطنية والدولية الضعف أو عدم الاكتمال، وهناك قِلة من القوى الفاعلة المستقلة، مثل جماعات المراقبة، التي تطالب بالشفافية والمساءلة.

وتزيد هذه الحال من صعوبة منع الأزمات، وبالتالي الاستجابة لها، خصوصا أنها تخلق الفرص للقوى الفاعلة للتلاعب بالنظام والتهرب من المسؤولية، وتسلط أزمة 2008 الضوء بقوة على مدى سوء استجابتنا السريعة للكوارث، وخصوصا تلك التي تتغذى على الإدارة المفتتة.

ومن المؤكد، كما يظهر تقرير الحوكمة لعام 2018 الصادر عن كلية هيرتي، أن بعض التحسن حدث بالفعل في الإعداد لإدارة الأزمات، ولكن يجب أن نكون أكثر يقظة في الانتباه إلى الكيفية التي قد تستعصي بها التطورات في نطاق واسع من المجالات- من التمويل إلى التكنولوجيا الرقمية وتغير المناخ- على قدرات الحوكمة والإدارة التي تمتلكها المؤسسات الوطنية والدولية. وينبغي لنا أن ندير سيناريوهات الأزمات وأن نعكف على إعداد خطط الطوارئ في التعامل مع الاضطرابات في كل من هذه المجالات، وأن نتخذ خطوات أقوى لتخفيف المخاطر، بما في ذلك إدارة مستويات الدين، التي تظل إلى اليوم أعلى كثيرا في الاقتصادات المتقدمة مما كانت عليه قبل أزمة 2008.

علاوة على ذلك، ينبغي لنا أن نضمن تزويد المؤسسات الدولية بالموارد والمسؤوليات المطلوبة، ومن خلال معاقبة أولئك الذين يتسببون في تفاقم المخاطر جريا وراء مصالحهم الشخصية، فإننا بهذا نعمل على تعزيز شرعية الحوكمة العالمية والمؤسسات التي يفترض أن تديرها.

كما هي الحال الآن، يشكل نقص التنسيق عبر الحدود وإنفاذ الاتفاقيات الدولية عقبة كبرى أمام منع الأزمات وإدارتها، ومع ذلك، بعيدا عن معالجة هذا الضعف، يعيد العالَم إحياء نموذج عتيق للسيادة الوطنية التي تجعل اندلاع الأزمات بمختلف أشكالها أكثر احتمالا، وما لم نغير هذا المسار قريبا، فإننا بهذا نعطي عالَم 2118 من الأسباب ما يجعله ينظر إلينا بازدراء.

* هيلموت ك. أنهاير

* أستاذ علم الاجتماع في كلية هيرتي للإدارة الحكومية في برلين.

«بروجيكت سنديكيت، 2018»

بالاتفاق مع «الجريدة»