في رمضان الماضي، زُرت والصديق الدكتور عباس الحداد السيدة أم سعود، أرملة أستاذنا خالد سعود الزيد، رحمه الله، لنبارك لها حلول شهر رمضان المبارك، ونطمئن على أحوالها، فمنذ وفاته، رحمه الله، قلَّ لقاؤنا بها، مع استمرارية التواصل عبر الاتصال الهاتفي للاطمئنان عليها. فقد كانت، ولم تزل، أماً لنا في حديثها معنا، ومعرفة أحوالنا.

وقبيل انتهاء زيارتنا لها، حدثتني نفسي أن أطلب من السيدة أم سعود أن تضع لنا شيئا من العطر الذي كان يتطيَّب به سيدي (أبوسعود)؛ إذ كان له عطر مميَّز يضعه في المناسبات. وعندما كنا نسأله، رحمه الله، عن مصدر العطر يقول: إنه من خَلَطات أم سعود الخاصة، إذ كانت هذه السيدة دائما تعتني به اعتناء فائقاً في هندامه، وعطره، وهيأته، لتخرجه كما تحب أن تراه ويراه الناس.

Ad

وقبيل مغادرتنا سألتها ذلك، فأجابتنا بكرم شديد؛ إذ أعطت كلاً منا قاروة عطر مما كان يتعطر به سيدي (أبوسعود).

وفاحَ عَرْفُكَ فيها فاكتَسَتْ أرَجا

نَسِيمُها أبداً من نَشرِه عِطرُ

كيف يصبح العطر ذاكرة وبصمة؟

العطر هوية صاحبه، مثلما أن اللغة شخصية كاتبها. وبين العطر والكتابة شيء من التآلف، وشيء من التخالف، فكلاهما يبرز ويخبر عن صاحبه. فالعطر بصمة وهوية تلتصق بصاحبها، وتدل عليه، وتخبر عنه، ألم يكن يعقوب يشتَم ريح يوسف على بُعد أميال، وحين ألقى عليه قميص يوسف وما يحمل من رائحته ارتد إليه بصره وصَدَقَتْ بصِيرته؟

وكذلك اللغة واستعمالها تكون بصمة وهوية للكاتب المتميز الذي استطاع أن يصبح من كُتاب الأساليب، ويصنع معجمه اللغوي بما يملك من مفردات، تكون دالة عليه كدلالة العطر على صاحبه.

ومما لا شك فيه، أن خالد سعود الزيد صاحب لغة خاصة، وأسلوب مميز في الكتابة والإنشاء، وهنا يكمن معنى التآلف بين العطر والكتابة.

أما الاختلاف، فيكمن في صمود الكتابة مع الزمن وثباتها، وتبخر العطر وتبدده بعد مضي الوقت، لكنه يبقى في الذاكرة، ينُمُّ عن صاحبه، ويستدعيه كلما اشتَم الآخر شيئا شبيها لذاك العطر. العطرُ حضورٌ وغياب.

ورحم الله الشاعر حين قال:

إنما الزعفران عطر العذارى

ومِدادُ الدواةِ عطرُ الرِجال

فكأنه أراد ما أردتُ من تضافر العطر بالكتابة؛ ائتلافا واختلافا، ليصبح المِداد هو عطر الرجال، هو العطر الأبقى والأقوى في الحضور، فالإنسان يغيب جسده، ويتلاشى ريحه، وتبقى منه سيرةٌ عطرة، وما حفظته الكتب من كلماته النافعة الدالة على استمرارية بقائه في الوجود، إنساناً نافعاً وفاعلاً فيه بعد غيابه الجسدي.

لقد طيَّب الله ثراه، بما أبقاه بين الناس من ذكر وعلم ينفع الناس، ويظل كالعطر فواحاً يجدد حضوره ويقاوم غيابه.

كذلك كان معلمي خالد سعود الزيد، رحمه الله، عطراً يفوح بيننا، وذكراً لا يتوقف. كان يُمسك بقارورة الطِّيب ويطيِّبنا بها عندما ندخل عليه، فنشم رائحة الطيب التي تجدد فينا عهداً بيننا، وتثبت في قلوبنا تلك المحبة الباقية له عبر السنين.

وبعد سبعة عشر عاماً من رحيله، تظل لغته وحديثه وكلماته وعلمه "عطرا يطيل قامةَ الهواء".