رحلت صحيفة "الطليعة"، بكل سجلها المهني والنضالي، تاركة تاريخاً من العمل الوطني المميَّز، من كفاح لترسيخ الديمقراطية والحريات، ودفاع عن حقوق الشعب ومكتسباته، وكذلك بسجل ناصع لرجال قادوا مسيرتها سيمجِّدهم تاريخ الكويت عندما يُكتب بإنصاف وضمير حيٍّ، بعيداً عن الأهواء الشخصية وضغوط أصحاب المصالح.ورغم أنني تلميذ من تلامذة مدرسة "الطليعة"، وعملت لسنوات طويلة مع رجالاتها المحترمين؛ الناشر المرحوم سامي المنيس، وأحمد النفيسي، وأحمد الديين، فإنني اليوم لستُ في معرض سرد تاريخ تلك الصحيفة العريقة، التي قفلت أبوابها أخيراً، ومعروضة ممتلكاتها للبيع في المزاد العلني، بل لأستعرض أزمة تشمل الصحافة الكويتية ككل.
ففي السنوات الأخيرة، وبعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الإلكتروني، وتراجع الحريات في البلاد، وتسيُّد أجواء التزمُّت، شهدت الصحافة الكويتية التقليدية (الورقية) أزمات مالية شديدة، أدَّت تدريجياً إلى تحوُّلها من صحافة مهنية إلى صحافة هواة ونقلٍ عن مواقع إلكترونية ووكالات.وفي شارع الصحافة هناك العديد من الهمس، بأن أكثر من صحيفة كويتية ستغلق أبوابها قبل نهاية العقد الحالي، بل أصبح دفع رواتب لكُتاب الرأي المهنيين المتدرِّجين في العمل الصحافي أحد الكماليات التي يجب الاستغناء عنها في الصحافة الكويتية لمصلحة كُتاب هواة، أو مَن يسعون لترويج أنفسهم للانتخابات، بجميع أنواعها، أو المناصب العامة، أو المتقاعدين الذين يشغلون فراغهم بكتابة مواضيع رأي دون أي تأهيل أو خبرة صحافية.تصوَّروا أن جامعة نيويورك يونيفرستي، وتحديداً كلية الطب فيها، والتي تُعد من أجود الكليات، ستتحمَّل تكاليف جميع الطلبة، والتي تبلغ 220 ألف دولار للطالب الواحد، نتيجة أن محسنين أوقفوا مشروعاً تجارياً للصرف على الكلية. وأنا شخصياً عندما زُرتُ في عام 200٢ أهم معهد للصحافة في جامعة أيوا الأميركية، اكتشفتُ أن رجلاً وزوجته، من أكبر مُلاك الأراضي الزراعية هناك، بسبب حبهما للصحافة أنشآ ذلك المعهد، وأوقفا قطعة أرض زراعية كبيرة ومصنعاً للأغذية لتكون أرباحهما مصدراً للصرف على هذا المعهد منذ 75 عاماً، بل إن وكالة أسوشيتدبرس للأنباء العريقة هي مؤسسة غير ربحية، وهناك أيضاً العديد من وكالات الصحافة الاستقصائية غير ربحية.في الكويت، التي يجب أن يكون وجودها انعكاساً لسماتها الديمقراطية، وصورة لتميز مبادرات آبائها المؤسسين، المرتبطة بحرية الرأي والإعلام وأجواء الانفتاح، لا يمكن أن تترك الصحافة الكويتية لتندثر شيئاً فشيئاً، وتصبح صفحات للهواة والباحثين عن الشهرة، وخاصة في ظل رغبة السُّلطة في ترويض كل منابر الإعلام وتجييرها للترويج لها، وطمس أخطائها، بينما في دول أخرى بالشرق والغرب تقدم مساعدات لوسائل إعلام ناقدة لها، حتى لا يختفي الصوت الآخر.لذا، فإن المجتمع الكويتي، الذي يمتلك طيف واسع من أفراده قدرات مالية هائلة، وله باع في العمل التطوعي والعمل العام، قادر؛ بعضه أو كله، على إنشاء مؤسسة صحافية وطنية غير ربحية، عن طريق وقف مجموعة عقارات أو مجمع تجاري كبير تصرف أرباحه على صحيفة بمهنية عالية، ودون أن يشغلها هاجس الربح والخسارة، حتى تحافظ الكويت على ريادتها في هذا المجال، وتكون رافداً يؤازر المؤسسات الصحافية المحترمة القائمة حالياً، والتي تعارك من أجل البقاء وخدمة وطنها وقرائها، ومَن سيتبنى مثل هذه المبادرة سيكون هو رمز الصحافة الكويتية والخليجية على مرِّ التاريخ.
أخر كلام
«الطليعة»... وأزمة الصحافة الكويتية
11-10-2018