أنت فلسطيني الهوى والهوية ولكنك ولدت خارج الوطن، كيف ترسمه في نتاجك الأدبي؟لا أعتقد أن لفلسطين صورة نمطية تقليدية واقعية في ذهني، لهذا لم أستطع تجسيدها كما يفعل الروائيون والشعراء الذين يعيشون داخل أوطانهم، لا أستطيع رسمها كما فعل رسول حمزاتوف حين تحدّث عن بلده داغستان، ولا مثل الياباني هاروكي حين تحدّث عن تفاصيل دقيقة في طوكيو. لا ذاكرة لدي في فلسطين، كل ما أملكه ذاكرة أبي وجدتي وأمي. أبي أفرغ ذاكرته متعمداً في ذاكرتي وأنا شاب صغير، معتقداً أنها الطريقة المثلى لبقاء الوطن حيّاً في الذاكرة، أما ذاكرتا أمي وجدتي فقد حصلت على البعض منها عن طريق الأسئلة.
إذا لوالدك دور مهم في تكوين ذاكرتك عن الوطن.كان أبي فلاحاً يعيش في قرية اسمها «شعب»، وهذه القرية لم يعد لها وجود، مسحها الاحتلال الصهيوني واستبدل بها «شعب الجديدة»، وهي ليست في المكان ذاته التي بُنيت عليه شعب الأصلية. أبي قاتل العصابات الصهيونية في العام 1948، وخرج من فلسطين بناء على طلب جيش الإنقاذ الذي وعد بتحريرها ونكث بوعده، فضاعت «شعب» وظلّ أبي في مخيمات لبنان حتى وفاته في العام 1978. ذلك هو محور كثير من رواياتي الأولى وأشعاري، خيانات وغربة وأسئلة لا تنتهي. آخر عمل كتبته كان بعنوان «شوق مزمن»، وكتبت الناقدة سهام أبو العمرين عن الرواية ووصفتها بأنها «دفاع مستميت عن الذاكرة». الوطن لدي وفي كتاباتي ذاكرة ناقصة، وهذا يؤلمني جداً كروائي وإنسان.
الحلم والمنفى
ما هو مفهوم الوطن بالنسبة إليك؟ مفهوم الوطن لخصته في قصيدة «حديث المورفين في معنى الوطن» حين قلت: «خذوا كل الشعر يا سادتي، وامنحوني فراشة في وطني، أطاردها ولا ألتقطها..». هو الطفولة المرتجاة في مرتع الحلم. للحلم مكانة بارزة في نتاجك، هل هو برأيك هروب من الواقع المؤلم أم معين تنهل منه رؤية جميلة للحياة؟الحلم غذاء الروح الوحيد للمبدع المتسربل بالمنافي، هو الأداة الوهمية للبقاء على قيد الأمل، يختفي تارة فتكتئب حروفي، ويظهر تارة فأرسم الوطن على وجه قمر مكتمل، الحلم مؤامرة نخيطها نحن المشتتون لندّعي أن لنا وطناً في ظل تآكله يوماً بعد يوم نتيجة الخراب الوطني الذي يتفشى في جسد القائمين على قضية وطني. لكن لا مفر من الحلم، ولا منجاة من الانتماء إلى وطن حتى لو كان في الذاكرة، حتى لو تحول إلى تجارة رابحة. الحلم يخلق توازناً بين الحياة والموت، ويجنّب الإنسان إلى حين من أمراض الإدمان والإصابة بالهستيريا. إلى أي مدى يجدر بالأديب إقامة توازن بين الواقع والتحليق بعيداً في الحلم؟ الكتابة، خصوصاً في عالمنا العربي، هي تحليق في الحلم، يعيد الأديب صياغته كلما ضاق الخناق على حريته وخيب السياسيون آماله وأفشوا الفساد والانقسامات في المجتمع حتى يسودوا، وهذا الحلم مشتق من الواقع، أي بمعنى إعادة تشكيل الواقع ليرضي طموحات الأديب بعد أن يسلط الضوء على قذارة ما نعيشه من تراجعات وهزائم واصطفاف إلى جانب الأعداء. وأعتقد أن الكاتب العربي فشل في تحقيق هذا التوازن، فهو إما يمارس سادية في تعذيب شخوصه أو يرسم واقعاً يستحيل تحقيقه إلا في جمهورية أفلاطون أو في الجنة، وبهذا يكون قد فقد الواقع والحلم معاً. أنا ككاتب فلسطيني لا أحلم كثيراً في كتاباتي، بل أوثق واقعي بطريقة أقرب إلى الفانتازيا، باستثناء كتاباتي العاطفية التي تشكل فيها المرأة ملاذاً آمناً من بشاعة الواقع.قلق وجودي
هل تنعكس غربتك عن الوطن في رسم شخصياتك؟ شخوصي غرباء غير منتمين، ضجرون في بحثهم عن وطن يليق بهم، وهم عشاق استثنائيون لا تصدق حبيباتهم مستوى عشقهم، لأنهن لا يتنازلن عن مفهوم الأنثى الضيق، وقد عبرت عن هذا في رواياتي «ند القمر» و«سماء أولى جهة سابعة» و«فتنة كارنيليان»، وظهر الضجر متجلياً في روايتي ما قبل الأخيرة «الكبش». تنبض كتاباتك بقلق وجودي، هل هو نابع من خشية على الذات أم من الا تلتقي أرض أجدادك أبداً؟أنا قلق بطبعي، ولا أدري إن كان بفعل اللاوطن أم بسبب الجينات، ولهذا أتعامل مع كل شيء على أنه مؤقت، وهذا المؤقت ربما يكون بسبب الغربة والمنفى واللاوطن أو الوطن الذي لا يحترم آدمية الإنسان، ثم أن الكاتب قلقٌ بطبعه، ولو لم يكن قلقه وجودياً لما كتب وطرح أسئلته التي لا تنتهي. ينبع قلقي من إيماني بعدم وجود حقائق مطلقة، وإنجاز كامل المواصفات، وامرأة كاملة المواصفات. ثمة أمر غائب يؤرقني، أحياناً أعلم ما هو، وأحياناً أدعي أنني لا أعلم ما هو، وهو تحايل آخر على الذات لتبقى مشغولة بالأنا الجمعية. هل ثمة اختلاف في نهجك بين كتابة الرواية والقصة والشعر؟ لا ألتزم منهجاً محدداً في كتابة الرواية أو الشعر، أنا تلقائي بشكل كبير في الرواية والشعر، وتتجلى التلقائية أكثر في الشعر لأن الرواية لا بد من أن تكون مدروسة. لهذا أتعذب حين أنخرط في كتابة رواية لأنني أخسر جزءاً كبيراً من تلقائيتي، منهجي هو صدقي الذي أحرص عليه لتصل الكلمة صافية إلى القارئ. أين يكمن البوح أكثر بين هذه الأنواع الأدبية الثلاثة؟ البوح هو البوح، قد تختلف اللغة وإيقاع الكلمات والسرد. أكتب الرواية بضجر وقلق كبيرين مغلفين بالهدوء، وأكتب الشعر حين تعجز الرواية عن استيعاب عاطفتي، قد يكون للشعر فتنة أكثر، لأنه يخلصني من أزمة داخلية وفكرة متورمة تدور في رأسي كثور منهك. للغربة والليل والطفولة مكانة بارزة في شعرك، لماذا هذا التركيز عليها وإلامَ ترمز؟أكتب الشعر حين تزدحم روحي بالغربة، وغالباً ما أكتبه في الليل، وأكتب الشعر بروح طفل، لهذا يظهر طفل أطال السهر في ليل الغربة. الليل غربة، والطفولة عمرٌ أفتقده، وحنين دائم ومزمن إلى أمي.«المغيب الناجي من التأويل»
يصدر لك قريباً ديوان جديد بعنوان «المغيب الناجي من التأويل» (دار مداد للنشر والتوزيع). ماذا تقصد بالعنوان؟ هذا الديوان هو الثامن في سلسلة إصداراتي الشعرية. المغيّب هو الغائب بفعل إجباري، هو المُهجّر، وهو المنتقل إلى الفكرة الأسمى، وهو في ذلك كله واضح وحقيقي وشرعي ومشروع، ولهذا يعتقد أنه لا تأويل له سوى ما يبدو عليه. تتنوّع القصائد بين الحنين والغياب والمعاناة والحب والمرأة والأرض، فهل هو عصارة تجاربك ورؤيتك في قضايا الإنسان المختلفة؟بالتأكيد، قلت عن الحنين في قصيدة تحمل الاسم ذاته «هو اكتمال الصدى في عيون العاشقين»، وفي هذا الصدى يحضر الغياب والمرأة والأرض والحب والشوق. نشرت ثمانية دواوين لكنني كتبت قصائد ونصوصاً شعرية تملأ عشرة دواوين جميعها تناولت ما تفضلت من تنوع.القصيدة المعرفية
في شعر أنور الخطيب نبضات فلسفية، فهل هي نتيجة تراكم ثقافي معرفي أم تساؤلات لم يجد لها أجوبة بعد؟ يقول في هذا الشأن: «أعتقد أنها نتيجة الاثنين معاً، وأنا أميل إلى القصيدة الحاملة للمقولات والرؤى، أي القصيدة المعرفية، أنا لست شاعر مناسبات ولست انفعالياً ولست إيقاعياً. أميل إلى قصيدتي النثر والتفعيلة، وإن حضرني الإيقاع في لحظة ما في القصيدة لا أغض الطرف عنه على أن يكون تلقائياً».