كيف يساعد ترامب بكين على الفوز في بحر الصين الجنوبي؟
تشن الصين منذ سنوات حرباً ضد الولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي، وواشنطن وحدها لم تلاحظ ذلك إلا بعدما قطعت هذه العملية شوطاً كبيراً، تهدف طريقة الحرب الصينية، التي تتبع نموذج فيلسوف العصور الوسطى القديمة سون تزو، إلى الفوز من دون القتال حتى. لا تُعتبر الصين دولة مارقة وسياستها منطقية بالكامل نظراً إلى أهدافها الجيو-سياسية المشروعة. تشبه مقاربة بكين إلى بحر الصين الجنوبي مقاربة الولايات المتحدة إلى منطقة الكاريبي خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حين سعت إلى بسط هيمنتها الاستراتيجية على البحر المجاور لها، وقد منحت الهيمنة على الكاريبي الولايات المتحدة سيطرة فاعلة على نصف الكرة الأرضية الغربي، مما أتاح لها التأثير محورياً في توازن القوى في نصف الكرة الأرضية الشرقي طوال القرن العشرين، ولا شك أن سيطرة الصين على بحر الصين الجنوبي في القرن الحادي والعشرين لن يكون أقل فائدة للصين.ستمنح السيطرة الفاعلة على بحر الصين الجنوبي الصين قدرة غير مقيدة على بلوغ المحيط الهادئ الأوسع، وستتيح لها أيضاً دفع تايوان (حدود بحر الصين الجنوبي الشمالية) إلى موقف أقل مقاومة. لكن الأكثر أهمية أنها تحولها إلى قوة بحرية ناشطة في محيطين. يشكّل بحر الصين الجنوبي بوابة المحيط الهندي، الذي يُعتبر الجسم المائي الأكثر أهمية في القرن الحادي والعشرين، لأنه يمثل طريقاً عالمياً للطاقة يصل بين حقول الهيدروكربون في الشرق الأوسط وتجمعات الطبقة الوسطى السكانية في شرق آسيا، ولا يمكننا الفصل بين خطوات الصين العسكرية في بحر الصين الجنوبي وعملية بناء إمبراطوريتها التجارية عبر المحيط الهندي وصولاً إلى قناة السويس وشرق البحر الأبيض المتوسط.
من الضروري أن تواجه الولايات المتحدة واقعاً مهماً: لم يعد غرب المحيط الهادئ بحيرة تسيطر عليها البحرية الأميركية بدون أي منازع، كما فعلت طوال عقود بعد الحرب العالمية الثانية، فعودة الصين إلى مكانتها كقوة عظمى تولّد وضعاً أكثر تعقيداً متعدد الأقطاب، لذلك ينبغي للولايات المتحدة أن تمنح القوات الجوية والبحرية الصينية بعض المجال في منطقة المحيط الهادئ الهندية، لكن السؤال الذي ينشأ: ما مقدار هذا المجال؟ تذكروا أن حليفَي الولايات المتحدة الرئيسين، اللذين يحدان بحر الصين الجنوبي، فيتنام والفلبين، لا خيار أمامهما سوى مجاراة الصين، تلك الدولة الأكبر مساحةً، المهيمنة اقتصادياً، والأقرب إليهما. تحتاج هاتان الدولتان إلى الولايات المتحدة كوسيلة لموازنة القوى ضد الصين لا كعدو واضح لها، وتدركان أن الولايات المتحدة اختارت أن يكون لها وجود عسكري قوي في المنطقة، مما يعني أن هذا الوجود من المتقلبات السياسية، وفي المقابل تُعتبر الصين المحور المنظم المركزي في المنطقة.ولّد ترامب في عقول حلفائنا الآسيويين مقداراً من عدم اليقين يفوق ما رأيناه مع كل القادة الأميركيين السابقين في الأزمنة العصرية، وقد يدفعهم هذا إلى عقد تفاهمات منفصلة مع الصين، لكن هذه عملية خطيرة قلما تعترف بها الدول، ونادراً ما تحتل الصفحات الأولى، ورغم ذلك سنستيقظ ذات يوم وندرك أن آسيا تبدلت على نحو لا عودة عنه. لا شك أن سياسات ترامب التجارية تقوّض الاستراتيجية الأمنية التي يطبقها وزير الدفاع جيم ماتيس في بحر الصين الجنوبي، لا تصدقوا مطلقاً أن الولايات المتحدة تستطيع استخدام التجارة كوسيلة ضغط على الصين في بحر الصين الجنوبي، حيث تملك بكين استراتيجية كبرى راسخة طويلة الأمد مقابل نزوات ترامب المتقلبة.إذا لم ترد الولايات المتحدة حرباً فعلية في بحر الصين الجنوبي، يبقى دفاعها الوحيد ضد سياسة التعديات التدريجية، التي تتبعها الصين، نظام الولايات المتحدة للتجارة الحرة وبناء التحالفات الديمقراطية الذي يعزز مكانتها العسكرية ويتصدى لنظام الصين الاستعماري. لا تقتصر القوة على العسكري أو الاقتصادي، بل تشمل الأخلاقي أيضاً، ولا أقصد بالأخلاقي هنا الإنساني والمعنوي. أشير إلى أمر أكثر صعوبة: مصداقية ما نعلنه كي يتمكن الحلفاء من الاعتماد علينا، بهذه الطريقة، تستطيع الدول التي تحد بحر الصين الجنوبي، مثل فيتنام والفلبين (إذا لم نقل تايوان وكوريا الجنوبية)، أن ترى أن من مصلحتها أن تظل بعيدة عن الصين.باختصار، ثمة تناقض مباشر بين قومية ترامب الاقتصادية العدائية والتزام إدارته بالدفاع عن بحر الصين الجنوبي، فلا يشكّل هذا البحر مياهاً إقليمية أميركية، إنما مياه الصين الإقليمية، ولا تزال الجغرافيا مهمة، وبما أن الولايات المتحدة بعيدة جداً، يبقى أملها الوحيد تقديم رؤية إقليمية ملهمة ترسّخ رؤيتها العسكرية.* روبرت كابلان* «واشنطن بوست»