تنوير : عن الرقابة والمستقبل
لماذا وإلى متى؟ لماذا نصرّ في ثقافاتنا العربية على الشكل التقليدي غير المجدي للرقابة؟ وإلى متى سنظل نغمض أعيننا عن حركة التاريخ وثورة المعلومات والاتصالات التي أصبحت أمراً عالمياً واقعاً؟ كل ما يمكن أن يقال عن الرقابة معروف للجميع، وجميعنا نثق في داخلنا من عدم جدواها، إذ كيف يكون المنع المباشر للكتب والمواد الإعلامية مؤثراً، بعدما أصبح كل الناس من أدنى الأرض إلى أقصاها قادراً على الوصول إلى أي شيء وكل شيء؟ جرب الإنسان أشكال الرقابة والمنع على اختلافهما منذ نشأة الدولة الحديثة، وأحسب أن الشكل الوحيد الممكن حالياً من الرقابة هو الرقابة الداخلية التي يفرضها الكائن العاقل الراشد على نفسه، وهي رقابة لا تقتصر على موضوع بعينه، بل هي رقابة أخلاقية شاملة يتمتع بها كثير من الشعوب، على الرغم من أن هذه الشعوب لا تمارس {رقابتنا} السطحية التي لا تنتج سوى مزيد من الشغف بالشيء الممنوع.
يبدو أن الرقابة في الثقافات العربية تسعى إلى إرضاء ذاتها، وجلب الشعور بالرضا للقائمين عليها؛ بأنهم قاموا بعملهم في محاربة الرذيلة ونشر الفضيلة عن طريق منع رواية أو حجب موقع أو إغلاق مركز للفنون. الأمر يتخطى حدود المنطق بصورة عبثية، فلا أنتم تمنعون الرذيلة إن كان في الأدب الجيد رذائل، ولا أنتم تنشرون فضيلة بالتعامل مع البشر بوصفهم أطفالاً يحتاجون إلى وصاية حتى نهاية أعمارهم. كل ما تقومون به أيها السادة الرقباء أنكم تزيدون الشغف بالأشياء الممنوعة، وبذلك يصبح المنع في حد ذاته أكبر دعاية لما تريدون منعه. وما الرقابة بالمنع المادي المباشر إلا تسليط الضوء بكثافة على ما مُنع، وإثارة لفضول من لا يعرف عن الأمر شيئاً كي يبحث ليعرف سبب المنع. ولكن هل يمكن لهذه الأشكال الرقابية أن تستمر في المستقبل؟ الاستقراء البسيط للتاريخ يقول إن ذلك مستحيل، لأن حركة إنتاج الفنون والآداب نفسها بدأت تفلت من يد الدول، وأصبحت في يد أفراد وشركات مستقلة بشكل متزايد، كما اختلفت وسائل النشر والتوزيع لأي منتج فني أو إبداعي سواء في الأدب أو الفنون التشكيلية أو السينما...الخ، بحيث أصبحت تعتمد على الوسائط الإلكترونية غير الخاضعة للرقابة، أو القادرة على التحايل دوماً على الرقيب.قلَّ الإقبال على الكتاب الورقي مع تزايد الكتاب الإلكتروني، وقلت لذلك قدرة أجهزة الرقابة على محاصرة الكتاب، فماذا تريدون أيها الرقباء من ممارسات لم تعد مجدية أو مؤثرة؟ أليس من الأجدى أن نهتم بتوعية أبنائنا قدر الإمكان بالعالم وبأنفسهم؟ أليس الأجمل هو تقوية المبادئ الأخلاقية فيهم، حتى إذا شبوا وأصبحوا رجالاً ونساء ناضجين تركناهم لوعيهم وما تمليه عليهم ضمائرهم؟ لنواجه أنفسنا بواقع العالم الذي نعيشه حتى لا نتخلف عن مسيرة الإنسانية أكثر من ذلك.