يبدو أن أحد كبار قادة «الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة» المسؤولة عن زرع بذور «الفوضى والموت والدمار» قادرٌ على أن يكون أيضاً «رجلاً محبوباً جدا». وعلى الأقل يبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعتقد ذلك، بعدما تلفّظ بكل هذه الكلمات خلال يومٍ واحد في إشارته إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني، في معرض اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الشهر الماضي.ويشكل هذا الجمع بين الانتقادات والمجاملات تناقضاً مقصوداً، فترامب لا يكتفي بإهمال الاتفاق النووي الإيراني الذي وقّعه سلفه عام 2015، بل يريد التفاوض على اتفاق أفضل، وتماشياً مع سياسته تجاه كوريا الشمالية، ينوي الرئيس الأميركي الضغط على إيران بأقصى قدر مُمكن إلى أن توافق على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
إنها استراتيجية بسيطة، ولكنها لا تخلو من مخاطر كبيرة، وأوضح ما في الأمر هو أنه بدلاً من الإذعان أو قبله، ستصعّد إيران الموقف عبر تكثيف أنشطتها النووية وإثارة أزمة، وعبر استعانة طهران بإحدى قواعد اللعبة في كوريا الشمالية، قد تحسب أنّ الولايات المتحدة ستشعر بالضغط لدفع الثمن لمجرد العودة إلى الوضع السابق.وقد تصمد طهران ببساطة فتتحمّل الوضع لفترةٍ معينة بدلاً من المساومة للتخفيف من الضغط الاقتصادي الساحق، كما فعلت الأنظمة الاستبدادية من فنزويلا إلى العراق في الماضي، وإذا سلكت إيران هذا المسار، فمن المحتمل أن تعتمد على ثلاثة أمور تعمل لصالحها، وهي: العزلة الدولية المستقبلية للولايات المتحدة، والاستقطاب المحلي الناتج عن نهج إدارة ترامب كما سيثبته هذا النهج وعدم استعداد واشنطن لتجاوز العقوبات لتحدّي إيران في جميع أنحاء المنطقة.
إحباط توقعات إيران
وإذا كانت إدارة ترامب تريد تعظيم الضغوط على إيران، فعليها إحباط توقعات طهران على جميع الصُّعُد الثلاثة، وثنيها في الوقت نفسه عن توسيع جهودها النووية، ويتطلب الأمر استراتيجية متعددة الجوانب أي خطة شاملة يدعمها حلفاء الولايات المتحدة وتتعدى إطار العقوبات بحيث تستخدم جميع أدوات السياسة المتاحة ومنها الوسائل الدبلوماسية والاستخباراتية والعسكرية، وتكون الخطة في الوقت نفسه مستدامة وتكسب دعماً محلياً كافياً من كلا الحزبين الأميركيين بحيث تبدو أنها ستدوم حتى بعد انتهاء ولاية ترامب.الخطوة الأولى في مثل هذه الاستراتيجية هي رأب الصدع بين الولايات المتحدة وحلفائها، ولا سيما فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، التي شاركت في المفاوضات النووية إلى جانب واشنطن. وعلى الرغم من الخلاف حول انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وإعادة واشنطن فرض العقوبات، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها في أوروبا متوافقون بشأن إيران أكثر مما هم مختلفون عليها، فلا أحد من هؤلاء الحلفاء يرغب في رؤية إيران تطوّر سلاحاً نووياً، وكلهم قلقون من نشاطاتها في تطوير الصواريخ والأسلحة الأخرى ومن نشرها لقواتٍ رديفة في جميع أنحاء الشرق الأوسط.يمكن إذن التفاوض على تسوية مؤقتة بين الولايات المتحدة وأوروبا، وعلى إدارة ترامب إظهار مرونة في تطبيق العقوبات، وعلى الاتحاد الأوروبي الانضمام إلى الولايات المتحدة في فرض تكاليف على إيران بمجالات الاهتمام المشترك مثل برنامج إيران الصاروخي وأنشطتها في سورية.اعتراضات مضللة
وقد يشكو البعض من أي تنازل في التدابير الأميركية الأحادية الجانب، لكن مثل هذه الاعتراضات ستكون مضلَّلة، فوقوف الولايات المتحدة وحلفائها بعضهم مع بعض سيحرم إيران ميزة استراتيجية ويعوّض إلى حدٍّ كبير عن أي انخفاض هامشي في الضغوط الأميركية. قد تؤدي المرونة في تطبيق العقوبات الجديدة إلى تمكين القوى الأوروبية من ثني إيران عن زيادة أنشطتها النووية ومنح هذه الدول المجال الكافي لحمل إيران على العودة إلى المفاوضات لمناقشة قائمة من المخاوف المشتركة بين الولايات المتحدة وحلفائها.لكن وجود جبهة دبلوماسية مشتركة بين الولايات المتحدة وأوروبا لن يكون كافياً، وحيث إن إيران تواجه ضغوطاً اقتصادية، فقد يكون ردها عنيفاً على أرض الميدان- كما رأينا سابقاً في العراق - في المناطق التي تدعم فيها وكلاءها وتجد فيها ميزة نسبية على الدول الغربية التي سئمت من الشرق الأوسط. وقد تشكك طهران أيضاً في ما إذا كان ترامب، الذي انتقد بشدة التدخلات الأميركية السابقة في المنطقة، سيردّ بحزمٍ على اختراق إيران للعتبة النووية، حيث تسعى بذلك إلى بناء سلاح نووي بسرعة. يجب ألا يكون التصدي لأعمال إيران في المنطقة نشاطاً عسكرياً بحتاً، بل لا ينبغي أن يكون كذلك. أي سياسة تتخذها إيران يجب أن تأخذ في الاعتبار حقيقة أن أولويات واشنطن العليا تكمن بشكل متزايد خارج منطقة الشرق الأوسط. بيد ان استخدام القوة بشكل محدود، كالاحتفاظ بالوجود العسكري الأميركي الصغير في سورية أو توسيع جهود الحلفاء في اعتراض شحنات الأسلحة الإيرانية، قد يزيد من تأثير الدبلوماسية. يجب أن تهدف تلك الدبلوماسية إلى حلّ النزاعات، مثل الصراع في اليمن، التي استغلتها إيران لتوسيع نفوذها الإقليمي، بقدر كبير من الأهمية لحرمان طهران من فرص جديدة للتدخل في شؤون الدول الأخرى.وأخيراً، على إدارة ترامب أن تضمن دعماً من الحزبين الأميركيين لاستراتيجيتها تجاه إيران، فعلى الجمهوريين أن يفهموا أن ثني إيران عن متابعة الأعمال التي حدّدها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو سيكون على الأرجح مجهوداً طويل الأمد. وعلى الديمقراطيين أن يدركوا أنّ مجرد العودة إلى الاتفاق النووي، إذا ما استعادوا البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية المقبلة، قد لا تكون سهلة للغاية - خاصة مع اقتراب مدّة سريان القيود التي فرضها الاتفاق على نهايتها- وأنهم سيحتاجون في كافة الأحوال إلى استراتيجية للتعامل مع التحديات غير النووية التي تفرضها إيران.إن تزايد التقلبات في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشأن القضايا الحساسة مثل إيران لا يشجّع فقط الحلفاء والخصوم على حدٍّ سواء، على التمسك بسياسة مستقبلية أكثر ملاءمة، بل يقلل أيضاً قدرة واشنطن على القيادة، ينبغي على كلا الحزبين الأميركيين تحمل مسؤولية عكس هذا المسار.وفي المرحلة الراهنة، تبدو إدارة ترامب معزولة عن قضية إيران، ولكن المخاوف التي أعربت عنها بشأن السياسات الإيرانية شائعة جداً في الواقع، داخل الولايات المتحدة وخارجها، كما أن حلفاء واشنطن يتوقون إلى القيادة الأميركية في المسائل الإقليمية الشائكة مثل سورية واليمن.قد لا يحظى ترامب أبداً بلحظة تاريخية مع زعيم إيراني إلى درجة يحتل فيها هذا المشهد شاشات التلفزيون، ولكن إذا كان بإمكانه حشد حلفائه بدلاً من معاداتهم، وإذا كان فعلاً صادقاً في المخرج الدبلوماسي الذي عرضه على طهران، فبوسعه أن يضمن دفع طهران ثمن تحدّيها للمصالح الأميركية وربما حتى إرغامها على العودة إلى طاولة المفاوضات.