"آخر نساء لنجة"... أول رواية للكاتبة الإماراتية لولوة المنصوري، الكاتبة الواعدة المختلفة، لكن لماذا هي مختلفة إذا كانت كتابة الرواية فناً له تقاليده وأساليبه التي يتقنها معظم الروائيين؟قبل أن أجيب عن سؤالي هذا أقول إنها شدتني من صفحتين قرأتهما منذ 6 أشهر بمجلة الرافد وكانتا سيرة قدمتها بملتقى الشارقة للسرد بمدينة الأقصر، لم أكن أعرفها، ولم أسمع باسمها من قبل وما قرأت أي مؤلَّف لها، فقط سحر الكتابة المتوترة الحية هو ما جذبني إليها في نصها السيرة، وأصبحت متشوقة أن أقرأ لها حتى أعرف قيمة كتابتها لأن الكتابة الجيدة تشي بجودتها من جملتها الأولى، وبالمصادفة التقينا بملتقى الشارقة للسرد بالرباط، كاتبة ودودة شكرتني بلطف على ما كتبته بحقها، ولم تتح لنا فرصة للقاء آخر للتعارف أكثر، لكني سمعت ما قالته إحدى الكاتبات بأنها قليلة الكلام، وبعد انتهاء الملتقى أهدتني روايتها ومجموعتها القصصية "قبر تحت رأسي".
أما لماذا هي مختلفة فلأنها حقيقة ساردة بمعنى الكلمة، ولأنها تدرك ذلك لم تعرف نفسها بكاتبة أو بروائية، بل صنفت نفسها بساردة، وهي ساردة إلى ما لا نهاية امتداداً لجدتها شهرزاد، تمتلك قدرة ونفَساً سردياً متواصلاً، حكاءة ونساجة من طراز الحكائين المتواصلة قصصهم، لذلك حولت فيما بعد مجموعتين قصصيتين لها إلى روايتين ،لأنها رأت أنهما يتحملان الاستطالة والامتداد الروائي، ولم تتشبع منهما، لذا، وهذا رأيي الخاص، أجد أن القصة القصيرة ليست بيتها، لأن بيتها أوسع وأكبر من ذلك ليتحمل ساردة بهذه القوة، وبهذا الامتلاء الكبير، ففي جوفها مدينة كاملة بأحداثها وأسرارها وخفايا ناسها."آخر نساء لنجة" تحكيها حفيدة آخر النساء بمدينة لنجة التي تقع في إمارة رأس الخيمة الإماراتية، ومن خلال مسامات حياة هذه الجدة "رزيقة" ندخل تاريخ جلفار الاسم القديم للإمارة، ونتعرف عليها وعلى جغرافيتها الممتدة بين جبال مسافي بقممها السامقة الحادة، وعلى وديانها الموحشة الوعرة، وبساتينها وعلى تراثها المشرب بنكهات مختلفة عربية وفارسية وسنية وشيعية، وأُناس بلغات وأعراق مختلفة، وبيوتهم المتلاصقة المتقاربة ومنهم بيت رزيقة زوجة النوخذة إبراهيم السردال وحفيدتها "ميعاد" التي تسرد من خلال تاريخ عائلتها سيرة جدها وجدتها وصديقة جدتها ويوسف زوجها وأختيها وحبيبها سالم، وكل ما يخص مدينتها وحروبها القديمة مع إيران ومحاولتهم احتلالها، مما دفع جدها السردال لترحيلهم إلى مدينة المحرق بدولة البحرين، وهنا أيضا تقوم الساردة بشبك نسيج حياتهم في المحرق مع حياتهم في لنجة بتضفير زمني ومكاني مختلف بالتناوب، يكشف للقارئ علاقة الجدة بأخيها وأبن أخيها سالم الصحفي الذي تنشأ علاقة حب بينه وبين الحفيدة ميعاد، المرتبطة بزوج هجرها منذ 8 سنوات بدون إبداء أية أسباب سوى أنها عقيم لا تنجب، ثم في نهاية الرواية يرسل إليها رسالة من أميركا يعتذر فيها عن عقمه الذي ألبسه إياها وأضاع فيه سنين عمرها بالانتظار.الرواية ليست حكاية عائلة بقدر ما هي حنين نوستالوجيا إلى تاريخ وتراث مدينة يغيب ويندثر تحت هجمات معاول الهدم والتغيير الحضاري الذي يجتاح مدن الخليج ويسلب منها روح ماضيها ويغير وجهها المألوف إلى آخر متمدن متغول متوحش.القصص هي دائماً ذات القصص التي تكررها البشرية، لكن ما يرفعها إلى ما فوق اعتياديتها هو جمال السرد وقوته وقدرته على التناسل وتشبيك حبكة النسيج، وهذا ما يميز سرد لولوة المنصوري، بالإضافة إلى تمكنها من لغة صافية قوية غير مستهلكة بتعبيراتها غير المبتذلة، وهذه صورة رهيبة للجدة رزيقة حين أصابها الخرف وهيجان الصور بذاكرة منسحبة "كمن أُضرم في قدميها النار، أطلقت ساقيها تهرول بالسواد المترجرج بوجه الريح، تدور بفناء الحوش هائجة يتلقاها استفزاز مجهول ما. بدت خفيفة حين انطلقت نحو المعول، يمضغها السطو العبثي لانتهاك جذوع شجيرات أمي الهزيلة. تصرخ بذات الصوتين (بئر حمدان ترقد فيه أم الغلمان) يهب الصوتان بصدى واحد، مستخفاً بالجدران، يخترق جدار حجرة أمي، يحتكر السقف، ثم يسقط في أقبية عباءتي التي بدت بلا قياس بشري. بارتطام يشبه تردم جثة في بئر سحيق، ارتطم الصوت فجأة... انتفض باحتضار... ثم سكت".بعد قراءة الرواية والمجموعة القصصية أدركت سبب قلة كلامها، فمن يسرد كل هذا السرد فقد زاع كل الكلام.
توابل - ثقافات
آخر نساء لنجة
22-10-2018