الجريمة في الفضاء الإلكتروني متعددة المشارب والأنماط، كسرقة الحسابات، واستخدام المعلومات الشخصية لاختلاس الأموال، أو التمويه والغش التجاري الإلكتروني، أو "الاغتيال الإلكتروني" للأشخاص عبر تشويه السمعة، أو الاختراق وما يعرف بـ"هاكنغ"، والذي يحدث ملايين المرات يومياً، وهو أمر لم يعد معقداً بل قد نجد صغار سن برعوا في ذلك، وصاروا يقومون بذلك للتسلية أحياناً، أو مقابل المال، أو يتنافسون، لهدف المنافسة في اختراق مؤسسات يفترض أنها محمية ومحصنة، صارت تعاني لحماية نفسها. أصبح ذلك من واقع الحال الذي يحاول العالم أن يتعايش معه كالتشريعات الأوروبية الأخيرة بتقييد استخدام المعلومات الشخصية لدى مواقع الشركات.تلك المرحلة صارت من الماضي، وانتقلنا إلى حقبة "ما بعد الحقيقة"، حيث أصبح صراع الدول والمؤسسات الكبرى محتدماً على التأثير على العقول، وعلى تزييف الحقائق، بصورة عامة والانتخابات بصورة خاصة، وربما كان مسار ومصير شركة "كمبريدج اناليتيكا" أحد النماذج. توغلت تلك الشركة اللئيمة في خصوصيات البشر، وتواطأت معها "فيسبوك"، وتمكنت من عرض خدماتها على الدول في التدخل بالرأي العام، والانتخابات والتلاعب بها وبنتائجها، وحديثنا هنا عن التأثير على دول متقدمة كبريطانيا "بريكست"، أو أميركا "انتخابات الرئاسة"، أو أوروبا بعمومها، فما بالنا بمنطقتنا، ففيها الأمور أكثر فداحة. وتحت وابل من الضغوط والفضائح المعلنة على مستوى "الجريمة المنظمة" اضطرت الشركة لإغلاق أبوابها، وربما فتحت أبواباً أخرى للاستمرار في النمط الجديد من الجرائم. تغلق دكاناً لتفتح بقالة أخرى بواجهة مختلفة ومحتوى بائس، ليست إلا "بلاك ووتر" أخرى. فاليوم هناك واحدة من أكبر عمليات التحقيق بأميركا في التأثير على انتخابات الرئاسة الأميركية ٢٠١٦، حيث تم ابتداع مصطلح جديد لذلك هو "ميدلنغ". اضطرت السلطات الأميركية عبر الكونغرس إلى التحقيق في "فيسبوك"، وكانت الإجابات صادمة، ومحبطة، لعالم مخترق. أما في منطقتنا فتستثمر حكومات وغيرها في صناعة "ما بعد الحقيقة" مدعومة بذباب إلكتروني عالي الطنين.
الفضائح المتكررة في التدخل بالشؤون الداخلية وبث الأكاذيب أصبحت شأناً يومياً، لزعزعة ثقة الناس بأنفسهم ومحيطهم، واستبدالها بكم من الأكاذيب، كافية لتمرير ما يراد تمريره. وتتضخم تلك الممارسات لتصبح مع الوقت أمراً اعتيادياً، فتصبح سلوكاً مقبولاً، يكرره الناس ويتداولونه. الصراع الدولي في حقبة "ما بعد الحقيقة"، منهمك في بث الأكاذيب، وتحويل العالم إلى عالم فارغ من أي حقائق، ليصبح الناس رهائن لمؤسسات ضخمة تسيطر على التكنولوجيا وحياة الناس الخاصة وحتى العامة، عالم كل ما فيه افتراضي، حتى المشاعر والأحاسيس المعروضة عبر تلك الوسائل، يتحول خلالها الناس إلى مجرد عبيد لوسائل إلكترونية، عبر أجهزة نقالة، وتويتر، وواتساب، وسناب شات، وانستغرام وغيرها، تحولهم لأصنام بعيون وآذان وأنوف، عقولهم مشلولة عن التفكير. ولربما يتحولون بعدها إلى أجهزة آلية، أو أصنام ممنوعة من الصرف، من يدري؟
أخر كلام
زمن الاختراق
22-10-2018