وجهة نظر : تعافي النفط حجر عثرة على طريق الإصلاح!
منذ الثالث من أكتوبر الجاري، وحتى أمس الأول الأربعاء، فقد سعر برميل برنت (خام القياس العالمي) نحو 12 في المئة من قيمته، وسجل هذا السعر أسوأ أداء له في جلسة تداول واحدة يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع، عندما فقد نحو 5 في المئة من قيمته، في أكبر خسارة له على مدى الأشهر الأربعة الأخيرة. كل هذا التراجع يحدث في وقت بدأ فيه العد التنازلي باتجاه الرابع من نوفمبر المقبل، موعد بدء الولايات المتحدة تفعيل عقوباتها ضد الدول والشركات التي قد تستمر في شراء النفط الإيراني. ويدل هذا الضعف الملموس في أسعار النفط الخام على أن ظلال الحرب التجارية بين أقوى اقتصادين في العالم، ومعها الدولار القوي المصحوب بتدهور عملات الاقتصادات النامية، قد باتت أقوى أثراً من الحصار الاقتصادي على إيران.
وعلى الرغم من الضعف الذي تتسم به أسعار النفط هذه الأيام، فإن السعر ما زال يحتفظ بشيء من زخم عافيته، التي اكتسبها منذ أن بدأت دول منظمة أوبك وحلفاؤها من خارجها بتفعيل سياستهم القاضية بتخفيض الإنتاج، بدءا من مطلع عام 2017، وهي السياسة التي استمرت حتى أواخر يونيو الماضي، عندما قرر كبار منتجي "أوبك"، بالتوافق مع روسيا والمكسيك وكازاخستان، البدء بزيادة الانتاج، في إشارة الى عودة السوق الى وضع التوازن. إرادة متخذ القراروكما أن ضعف الأسعار الذي بدأ منذ منتصف عام 2014 قد مثل مأزقاً لدول النفط، فإن الصعود القوي الذي شهدته هذه الأسعار في العام الحالي يمثل أيضاً معضلة لها على المدى البعيد، ذلك أن تعافي الأسعار يضعف من إرادة متخذي القرار في الدول النفطية، وينال من عزيمتهم على مواصلة برامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري الضرورية من أجل إنقاذ بلدانهم، وخصوصاً تلك المدمنة للنفط ومنها الكويت، من ارتباط مصيرها ومستقبلها بتقلبات أسواق النفط. لقد أصبح الاسترخاء المصاحب لتعافي الأسعار ظاهرة متكررة، بل ومن السمات والخصوصيات المتأصلة في الدول الريعية. وقد أثبتت عشرات من الدراسات الميدانية الرصينة أن البلدان الغنية بالنفط، ومثلها كل البلاد الغنية بموارد طبيعية أخرى، تسجل معدلات نمو اقتصادي أبطأ وأقل من تلك المعدلات التي تسجلها البلدان، التي تعاني شح الموارد، وتعرف هذه الظاهرة في أدبيات الاقتصاد بظاهرة "لعنة الموارد". وتثبت هذه الدراسات أن سياسة توزيع الثروة الريعية وفق أنساق غير منضبطة وعبر قنوات استهلاكية غير منتجة وغير مدرة لعوائد أو ثروات جديدة عبر العمل المنتج، كما هو الحال في البلدان النفطية، تلعب دوراً مخرباً، كما أن ضعف البناء المؤسسي، وبالتالي عدم جودة القرار الذي يصدر عن المؤسسات في هذه البلدان من شأنه أن يوجه الثروات على المدى البعيد باتجاه استشراء وتضخم القنوات الاستهلاكية، وبالتالي تفاقم اشكالية الدول الريعية. استحقاق لا مناص منهإن أخطر خطيئة تمارسها المؤسسة التشريعية والتنفيذية، ومعها مؤسسات الدولة الأخرى، هو فقدانها الرغبة والقدرة على الالتزام في فترات الرخاء واليسر ببرامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري، التي تضعها في فترات الشدة والعسر، وهي تعلم أنها بأمس الحاجة إليها، من أجل استدامة نمو وازدهار اقتصاداتها وتحولها من اقتصادات تعتاش على الصدفة التاريخية إلى اقتصادات حقيقية منتجة ومبدعة.إن دولة الكويت تواجه استحقاقا مستقبليا لا مناص منه، يتمثل في ضرورة ايجاد وظائف حقيقية ومنتجة لخريجيها، الذين يتزايد عددهم وفق متوالية تفوق في سرعتها ما تولده خططها التنموية وسياساتها الاقتصادية من وظائف وتنويع قطاعي، وما توفره لقطاعها الخاص من حوافز قادرة على الوفاء بمتطلبات هذا الاستحقاق. ويشكل تراجع الإدارة التنفيذية أو تباطؤها في تفعيل برنامج الإصلاح الاقتصادي، بقدر ما تشكل ضغوط المؤسسة التشريعية على هذه الإدارة من أجل قبول التعديلات المقترحة بشأن التقاعد المبكر، أو مطالبتها لها بتعهد ملزم بعدم ترشيد هيكل الدعوم، بعضاً من المؤشرات الدالة على انعدام التناغم بين ما تتطلبه كويت المستقبل من التزام ببرامج الاصلاح والتنويع، وبين ما يشيعه الاسترخاء من رغبة في دغدغة المشاعر.*أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت